لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم هو الأكثر سخونة ودموية منذ انطلاق حرب غزة التي صادف أمس ذكرى مرور عام كامل عليها، وهي أطول حروب الصراع العربي - الإسرائيلي منذ إعلان قيام الدولة العبرية في 1948.
وبعيداً عن كل أحداث ذلك الأسبوع، والذي شهد إنجازات استخباراتية وعسكرية جعلت حكومة تل أبيب تشعر بزهو لم تشعر به منذ عقود، فإن الخطر الاستراتيجي الأكبر يكمن في خطاب نتنياهو الأخير في الأمم المتحدة. فقد أطلق نتنياهو تهديدات عدة لدول المنطقة بأن جيشه يملك قدرات تمكّنه من الوصول لأي هدف في الشرق الأوسط. وعندما يقول «أي هدف» فهو يُطلقها من دون أن يخصص الدول/المناطق التي تُعلن العداء لإسرائيل.
عرض نتنياهو خريطتين؛ لوّن إحداهما بالأخضر وسمَّاها «الخريطة المباركة»، وقد وصفها بأنها خريطة تربط الشرق بأوروبا بشكل يعِد بالازدهار والسلام. وبالمقابل، عرض خريطة أخرى لوّنها بالأسود وسمَّاها «الخريطة الملعونة» والتي ضمَّت إيران، والعراق، وسوريا، ولبنان وأجزاء من اليمن. وقد وصفها بأنَّها الخريطة التي تهدد الأمن الإقليمي لجميع الدول وليس لإسرائيل فقط.هذه النقطة من خطاب نتنياهو تستدعي توقفاً طويلاً مع مغالطاته المغلفة بقدراته البلاغية في التحدث باللغة الإنجليزية. فالرجل يمارس أخطر أنواع التضليل، وهو المغالطة التي تُعد أخطر من الكذب الصريح بكثير. فالكذب يُكشف ويرد عليه من خلال المعلومة، بينما تحتاج المغالطة إلى شرح وتفصيل.
إن أولى نقاط تلك المغالطة، وصفه الدول التي تتبادل الهجمات معه بأنها ملعونة، بينما الدول التي لا تبادله إطلاق النار بأنها مباركة. وكأن الصداقة والعداوة مختزلان في الاشتباك الميداني. تكمن المغالطة في أنه وضع الدول في سلتي تصنيف «مع أو ضد». والحقيقة أن لكل دولة من تلك الدول وضعها المختلف في التعاطي مع الدولة العبرية. وحتى لا نطيل الشرح، سنتوقف سريعاً مع الخريطتين لتبيين المغالطة.
بالنسبة إلى الخريطة السوداء، فإيران تُعلن العداء لإسرائيل في الوقت الذي تلتزم فيه قواعد الاشتباك من أجل تجنّب الحرب الشاملة. بالمقابل، فإنَّ سوريا خارج دائرة الاشتباك، فدورها ينحصر في تلقي الضربات الإسرائيلية الموجهة ضد عناصر «الحرس الثوري» الإيراني والأذرع المسلحة القادمة من العراق ولبنان وغيرهما الذين ينشطون على الأراضي السورية، فهي تلعب دور المستضيف، أو بالأحرى اللاعب السلبي. أما بالنسبة إلى العراق ولبنان، فإن الدولتين ليستا في حال حرب معلنة مع إسرائيل، وتعلن حكومتا البلدين أنهما تملكان علاقات طيبة مع الولايات المتحدة. غير أن الأحزاب ذوات الأذرع المسلحة هي من تشتبك بشكل مباشر مع إسرائيل، سواء على حدود فلسطين المحتلة أو الأراضي السورية، فتلك الفصائل العراقية واللبنانية تنشط لاعباً خارج إطار الدولة. أما اليمن، فلا توجد دولة لها نفوذ على الأرض، وإنما ينحصر الأمر في جماعة الحوثي التي تساند المحور الذي تقوده إيران.
بالنسبة إلى الخريطة الخضراء، فهي - كسابقتها السوداء - مقسّمة لثلاثة أنواع. فدول مثل مصر، والأردن والإمارات تملك علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، ولم تتأثر تلك العلاقات بشكل فعلي بالأحداث التي تلت هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وبالنسبة إلى السودان الذي يعيش صراعاً مسلحاً، فإن الفريقين المتصارعين يتفقان على إقامة علاقات مع تل أبيب. العلامة الفارقة في الخريطة الخضراء هي السعودية التي لم تغير موقفها منذ عقود؛ لا علاقات مع تل أبيب من دون دولة فلسطينية. ومع ذلك أبى نتنياهو إلا أن يضعها في خانة الدول التي أسماها شركاء إسرائيل. والهدف واضح ويكمن في محاولته الضغط الناعم على السعودية للقبول بتسوية تقود إلى اتفاق من دون دولة فلسطينية، ويعزز من ذلك الضغط التصفيق الحاد لأنصار إسرائيل في قاعة الأمم المتحدة.
النقطة الأخطر في مغالطات نتنياهو وهو يعرض خرائطه، أنه يُقدّم إسرائيل وكأنها المعرّف بين الحق والباطل، فمن معها مبارك ومن ضدها ملعون. بل إنه استخدم مصطلحات أقرب للدين منها للسياسة. إن الخطيب المفوَّه يعي تماماً ما يقول، فهو ليس مجرّد سياسي علماني يريد تقديم دولته بصفتها قوى إقليمية عظمى. إن نتنياهو يتحدث بكونه يهودياً صهيونياً مخلصاً يرى أن من يعاديه ملعون، ومن يقف معه مبارك. ويعزز هذه النقطة أنه قارن حرب إسرائيل على سبع جبهات بما وصفه بالغزو الذي أمر النبي موسى بني إسرائيل بالقيام به عندما دخلوا أرض كنعان من سهول موآب. لقد استدعى نتنياهو التاريخ الديني ونصوص التوراة ليقارن دخول بني إسرائيل أرض كنعان بعد حرب على سبع جبهات، بصراع دولة إسرائيل اليوم على سبع جبهات، ليخلص لنتيجة مفادها: «لا يوجد مكان لا تستطيع الذراع الطويلة لإسرائيل الوصول إليه».
في مقال سابق حول الملهاة الشعرية التي كتبها الدبلوماسي السعودي المخضرم غازي القصيبي عن نتنياهو، وصفتُ موقف السعودية بأنه يرمي إلى تأمين ضمانات تُحقق مكاسب معقولة للفلسطينيين، وأن هذا الموقف لن يمنح نتنياهو مكسباً تاريخياً بالمجان؛ لأنه يقوم على وعي القيادة السعودية بحجمها الكبير ووزنها الثقيل؛ وبالتالي فإنها ليست بوارد الدخول في اتفاق يمسّ بمكانتها الكبيرة لكونها ضامناً سياسياً للحق العربي في فلسطين. لذلك؛ فإن خرائط نتنياهو لا تعدو أكثر من «خريط» والتي تعني «هُراءً» بحسب اللهجة الخليجية الدارجة.