د. ياسر عبد العزيز
TT

مصنع الأوهام

لقد بدأت «السوشيال ميديا» علاقتها بعالمنا بداية طوباوية مبشِّرة وواعدة بحق؛ فهي تعمل في فضاء سيبراني ليس له طبيعة مادية، وسيمنحنا فرصاً متساوية للمشاركة والتعبير عن الرأي، بصرف النظر عن مواقعنا، ومواقفنا، ومصالحنا، ومكانتنا في المجتمع.
من المفترض أن يؤدي ذلك إلى إنعاش النقاش العام، وتعزيز التفاهم وتلاقح الأفكار. وسيأخذنا هذا إلى تقليص الاحتكار والفكر السلطوي والأحادي، وسيختلط الرجال بالنساء، والبيض بالسود، واليمينيون باليساريين، والمتدينون باللادينيين، ومشجعو برشلونة بأنصار ريال مدريد. ولأن هابرماس كان قد قال إن المجال العام يتسم بالشمولية، ويحظى باستعداد جماعي للتعاون في البحث عن اتفاق هادف حول كيف يكون العالم وكيف ينبغي أن يكون، فإن تلك الوسائط ستلعب دوراً مؤثراً وإيجابياً، يأخذنا بعيداً عن التشظّي والتفتت واحتمالات الصدام.
لكنّ الوقائع كذّبت تلك التوقعات، وراحت «السوشيال ميديا» تعمل في اتجاه معاكس تماماً. وبدلاً من إتاحة مساحة مشتركة وآمنة للتفاعل الإيجابي، تحوّلت تلك الوسائط إلى جزر معزولة ومغلقة على أفكار ومعلومات وهواجس تعمل في اتجاهات متباينة وأحياناً متصادمة.
تخيَّل أن كل مقاهي العالم صارت «ستاربكس»، وكل المطاعم أضحت «ماكدونالدز». وبسبب ظروف اجتماعية محددة، وطاقة الخوارزميات، وآليات التفاعل السائدة عبر تلك الوسائط، تم تحديد إقامتك الفكرية ضمن مجموعة واحدة، تجترّ خطاباً واحداً مكرراً، لا يحظى بأي تغيير إلا فيما يخص التفاصيل والتطورات التي لن تخرج عن هدف محدد يكرس اتجاهاً بعينه.
هذا ما جرى بالفعل، لـو أمكن رصده والبرهنة عليه؛ فقد تحدثت الأميركية الأربعينية آشلي فاندربيلت الأسبوع الماضي إلى وسائل الإعلام، معترفةً بأنها سقطت ضحية لـ«نظرية المؤامرة»، ليتم اعتقالها فكرياً داخل حدود تلك النظرية بواسطة جماعة «كيو أنون»، التي رسمت لها «واقعاً فائقاً» بمعالم محدّدة، ولم تترك لها أي فرصة للخروج من أسر هذا العالم.
تقول فاندربيلت إنها هاتفت والدتها لحظة إعلان فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية، وأبلغتها بأن «الولايات المتحدة باتت تحت حكم الصين، وإنها ستتوقف عن إرسال ابنتها إلى المدرسة، لأننا سنموت جميعاً». لكن المعلومات التي وردتها لاحقاً عبر ناشطي «كيو أنون» على «تيك توك» طمأنتها للغاية؛ إذ إن «بايدن لن يتمكن من تولي المنصب الرئاسي، لأن الكهرباء ستنقطع وسيسود الظلام، وستُعلن الأحكام العرفية، وسيتولى الجيش زمام الأمور، إلى حين عودة ترمب إلى منصبه، الذي سعت الانتخابات المزوّرة لسلبه إيّاه».
لم تكن فاندربيلت وحدها في هذا العالم، فهناك أيضاً جيتارت جاديجا، وهو مواطن أميركي أربعيني، أخبر مذيع «سي إن إن» الشهير أندرسون كوبر، الأسبوع الماضي، أنه كان يعتقد أن هذا الأخير ليس سوى «إنسان آلي»، وأنه كان متأكداً بما لا يدع مجالاً للشك من أن كوبر «يأكل لحوم الأطفال ويشرب دماءهم»، لأن المجموعات الناشطة على «السوشيال ميديا» من أتباع «كيو أنون» جزمت بذلك.
لم تنجح «كيو أنون» عبر استخداماتها الحاذقة لوسائط «السوشيال ميديا» مع ربّات البيوت وأنصاف المتعلمين، الذين لا يطالعون الصحف ولا يتابعون نشرات الأخبار، فقط، بل نجحت أيضاً مع نخب سياسية وثقافية؛ مثل نائبة الكونغرس مارجوري تايلور غرين، التي صوّت مجلس النواب الأميركي على معاقبتها بالطرد من عضوية لجنتين برلمانيتين الأسبوع الماضي، بسبب آرائها الغريبة والحادة وغير المستندة إلى أي برهان.
كانت تلك النائبة المنتخَبة عن ولاية جورجيا تعتقد أن «ترمب يحارب عصابة من عَبَدة الشيطان الذين يأكلون لحوم البشر». ومنحت إعجابها على مواقع «سوشيال ميديا» لمنشورات تؤيد العنف. واقترحت عدم السماح للمسلمين بالخدمة في الحكومة، ورأت أن «هجمات 11 سبتمبر (أيلول) لم تحدث»، قبل أن تعود وتُبدي الأسف، من دون الاعتذار، عن تلك الأفكار، ومن دون أن تتراجع عن اعتقادها بأن ترمب فاز في انتخابات 2020.
لم أوفّق في الاطلاع على نتائج أي بحث أو استطلاع موثوق لعدد هؤلاء الذين ينتمون إلى «كيو أنون»، أو يعتقدون في الأفكار المروَّجة عبر منصاتها وحساباتها المختلفة، لكن تقديري أن عددهم لا يقل عن عشرات الملايين. وقد ظهرت ذروة تأثيرهم في مشهد اقتحام «الكابيتول»، وما صاحبه من خطاب أحادي صارم لا يقود إلا إلى العنف وتحدّي العالم والسلطات.
تبدأ حالة «الخطف الذهني» التي تجسّدت في فاندربيلت وجاديجا وتايلور غرين بـ«التعرّض القسري أو الأحادي» لمنصة واحدة ذات أفكار وتأثير محدّدين، وتزدهر بالامتناع عن الانفتاح على ما يقوله الآخرون، وتنتهي بأشخاص منوّمين يتحرّكون بيننا... لكن كقنابل موقوتة مشحونة بالأوهام وجاهزة للانفجار.