ديفيد اغناتيوس
صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة "واشنطن بوست". كتب ثماني روايات، بما في ذلك "جسد الأكاذيب"
TT

واشنطن وبيونغ يانغ ومسألة بناء الثقة

للكوريين قول مأثور يفسر عمليات المقايضة المتفائلة التي تجرى هذه الأيام بين واشنطن وسيول وبيونغ يانغ يقول: «قل أشياءَ جميلة لكي تسمع أشياءَ جميلة». لكن حالة من الشك تسود في البيت الأبيض بأن الكوريين الشماليين لن يتخلوا عن أسلحتهم النووية مهما حدث. فقد جاءت تسريبات حديثة عن استمرار كوريا الشمالية في بناء ترسانتها النووية والصاروخية لتعزز من المخاوف من أن يكون الرئيس دونالد ترمب قد قدم أكثر مما حصل عليه في سنغافورة.
لكن الأحاديث العامة في واشنطن وبيونغ يانغ جاءت دافئة بعد جو من القشعريرة، وما يعزز ذلك الدفء هو التحركات الحقيقية لتخفيف حدة التوتر القائم.
كان آخر الكلام المعسول ما دونه ترمب في تغريدته الأربعاء الماضي، والذي أسرف فيها في الإطراء والشكر للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون «لوفائه بوعده» وإعادة رفاة الجنود الأميركان الذين ماتوا في الحرب الكورية. اعتبر ترمب ذلك التصرف «عملاً طيباً» وأمهر الرسالة بعبارة: «أتطلع إلى رؤيتك في القريب العاجل».
ربما كان أهم حوار جرى الأسبوع الحالي بشأن كوريا، هو ما جرى خلال اللقاء الذي جمع بين جنرال كوري شمالي وآخر كوري جنوبي في قرية بانمنجوم الحدودية، وكان بمثابة القسط الأخير في عملية التواصل البطيئة الثابتة بين الكوريتين التي سبقت قمة ترمب - كيم. ناقش الجنرالان تقليص الأسلحة في المنطقة منزوعة السلاح، وتعليق التدريبات العسكرية وسحب المدفعية المنتشرة على امتداد ساحل البحر الغربي، بحسب تقارير كورية جنوبية. ويود قادة كوريا الجنوبية تحويل المنطقة منزوعة السلاح إلى محمية خالية من السلاح تماماً للدلالة على التقدم الذي تحقق في هذا الشأن.
يحتل ترمب عناوين الصحف عندما تتناول الأخبار الشأن الكوري الشمالي، لكن الدافع الأهم هو المحادثات الجارية بين الكوريتين. فقد أشار كيم في كلمة ألقاها يوم 1 يناير (كانون الثاني) الماضي إلى أنه أراد تعزيز قدرات أسلحته النووية لتحقيق النمو الاقتصادي، وجاء رد الزعيم الكوري الجنوبي مون جي شجاعاً من خلال الدبلوماسية الأولمبية. واغتنم ترمب تلك الفرصة، لكنه لم يخلقها.
فالمزاج الدبلوماسي لواشنطن ارتفع مع الوقت خلال الشهرين الماضيين مثلما يرتفع الرسم البياني بعد قمة سنغافورة في 12 يونيو (حزيران) الماضي. وقد تسبب التفاؤل الأميركي الزائد بشأن نزع الأسلحة النووية (وهو التفاؤل الذي عززته كلمات ترمب) في حالة من الضيق والإحباط، عندما سحب الكوريون الشماليون أقدامهم إلى الوراء. وتسبب الضغط الأميركي لتحقيق تقدم أسرع في احتجاجات كورية شمالية على الأسلوب قريب الشبه بتكتيك العصابات.
وها قد انقشع الغبار الكوري، على الأقل مؤقتاً، بسبب سلسلة من إجراءات بناء الثقة التي بدأها كيم، ورغم أنها لم تتحرك تجاه نزع السلاح النووي، فقد أظهرت حسن النوايا؛ حيث قام الكوريون الشماليون الشهر الماضي بتفكيك قواعد لاختبار الصواريخ ولإطلاق الأقمار الصناعية، قبل أن يقوموا في النهاية بتسليم رفات الجنود الأميركيين.
وتريد واشنطن أن تبدأ نزع الأسلحة النووية بعملية جرد تفصيلية للمواد والمواقع الكورية الشمالية، وعلى الجانب الآخر، أخرت كوريا في خطاها، على الأقل في العلن، انتظاراً للمزيد من إيماءات النوايا الحسنة من قبل الأميركان. الأمر الأهم القادم في الطريق أمام الولايات المتحدة والكوريتين هو الإعلان المقترح المشترك للنهاية الرسمية للحرب الكورية. فخلال قمة بانمنجوم التي عقدت في 27 أبريل (نيسان) الماضي، تعهد مون وكيم بأن هذا الإعلان سوف يصدر قبل نهاية العام. ومن جانبها، قاومت الولايات المتحدة لأنها أرادت من كوريا الشمالية تقديم المزيد فيما يخص نزع أسلحتها النووية. ومن شأن الإعلان الرسمي عن نهاية الحرب الكورية أن يعزز من عملية نزع السلاح النووي، وذلك «بإزالة مخاوف كوريا الشمالية بشأن أمن نظامها الحاكم»، بحسب تقرير صدر عن كوريا الجنوبية عقب قمة بانمنجوم. وتعتقد سيول أن هذا الإعلان، الذي قد توقع عليه الصين أيضاً، سوف يؤثر على حالة القوات الأميركية في كوريا الجنوبية. في الواقع، تجادل سيول بأن الكوريتين الشمالية والجنوبية ربما تتفقان سراً على المنفعة التي تعود عليهما من وجود القوات الأميركية كحيلة لاختبار هيمنة الصين على شبه الجزيرة الكورية.
وخلال مقابلة شخصية جرت الأسبوع الماضي، شرح السفير الكوري الجنوبي لدى الولايات المتحدة، تشو يون جي، أهمية إعلان نهاية الحرب الكورية وغيرها من إجراءات بناء الثقة كجسر للوصول إلى نزع السلاح النووي بقوله: «نعتقد اعتقاداً راسخاً بأن التواصل المشترك بين الكوريتين، من شأنه أن يساعد في حوار نزع السلاح النووي». وبكلمات أخرى، فإن الطريق من بيونغ يانغ إلى واشنطن ربما يمر عبر سيول.
تدفع كوريا الجنوبية كذلك جارتها الشمالية للعمل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كخطوة للانضمام التدريجي لمنظومة الاقتصاد العالمي. وقد أخبرني تشو بأن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي «لن يمنحا قروضاً فحسب، بل الأهم هو إسداء النصح بشأن التحول الاقتصادي». ومرة أخرى، تبدو الولايات المتحدة حذرة من تقديم التسهيلات قبل أن تتخذ كوريا الشمالية خطوات ملموسة لتفكيك بنيتنا النووية.
في 27 يوليو (تموز)، احتفلت كوريا الجنوبية بذكرى «الانتصار» في الحرب الكورية. وأشار المحلل السابق لدى وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) روبرت كارلين إلى ذلك في وقت سابق بالقول إن «كوريا الشمالية تفاخرت بإلحاق الهزيمة بالمعتدين الإمبرياليين بقيادة الولايات المتحدة». لكن بيان العام الحالي ذكر فقط كلمة «إمبرياليين». وبتلك التغييرات البسيطة في المعنى يمكننا أن نرى كيف يمكن للتحولات الكبرى أن تتم.
*خدمة «واشنطن بوست»