الشرق الأوسط
TT

درس من أوكرانيا

عندما كانت معظم الدول العربية جزءاً من الدولة العثمانية، خاضت هذه الدولة حرباً طاحنة متعددة الأطراف في شبه جزيرة القرم التي تتبع اليوم جمهورية أوكرانيا.
شبه الجزيرة التي يقوم فيها منتجع يالطا الشهير باستضافته الملتقى الدولي المهم عام 1945، وتوجد فيها إحدى أهم قواعد الأسطول الروسي، هي اليوم «قمة جبل جليد» الأزمة الأوكرانية التي تهدد بعودة مناخات الحرب الباردة. ويرى البعض اليوم أن هذه الأزمة قد تعيد رسم العلاقات بين «شرق» طامح إلى إنهاء الأحادية القطبية الأميركية، التي تكرّست مع انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، و«غرب» يبدو في حيرة من أمره حيال المبادئ الديمقراطية التي يدّعي الحرص عليها.
ولقد كان دفاع الغرب عن تلك المبادئ وترويجه العنيد لها وراء خلخلة الكتلة السوفياتية وذراعها العسكرية «حلف وارسو». ولذا، تبدو مفارقةً أن ترتبك المعادلات بالصورة التي نراها اليوم، بعدما تمكّن متظاهرو ساحات العاصمة الأوكرانية كييف من إزاحة فيكتور يانوكوفيتش «رجل موسكو القوي» ولو بكلفة دموية مرتفعة في الحسابات الأوروبية.
المرجّح أن ما حصل حتى الآن هو تحقيق التيار المناوئ لموسكو في أوكرانيا انتصاراً في جولة مبكرة من مواجهة قد لا تكون قصيرة. ذلك أن رهانات روسيا ما زالت قوية، وهي تعتمد على حقائق طائفية وجغرافية ومصلحية في سعيها للحؤول دون خسارة دولة تعتبرها «شقيقة صغرى» و«خط دفاع» لا غنى لها عنها أمام مطامح الغرب. وكانت روسيا قد قاومت ضم أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي «ناتو» ونجحت في ذلك عام 2010 إثر فوز يانوكوفيتش في الانتخابات الرئاسية على منافسته اليمينية يوليا تيموشنكو. واليوم تعارض روسيا مجدّداً انضمام أوكرانيا إلى «الاتحاد الأوروبي» لرفضها وصول النفوذ الغربي عبر «الحلف» و«الاتحاد» إلى حدودها عبر جمهورية سلافية كبيرة كانت جزءاً من إمبراطوريتها، وما زالت تؤمن بأنها جزء لا يتجزأ منها. وفي المقابل، على الغرب أن يفكّر جدّياً بأي لغة يستطيع التحاور مع قيادة روسيا المنتشية بنجاح تحدياتها الدولية، وأحدثها في سوريا، على حساب انكفاء أميركي واضح في عدة مناطق من العالم يقوم على مبدأ تجنب المواجهة.
في أوكرانيا انقسام ثقافي ومذهبي وجغرافي يتمثل في أرجحية مؤيدي الارتباط بروسيا في الجنوب والشرق، وأرجحية لمناصري التكامل مع أوروبا والغرب في الشمال والغرب. ولئن كان لا بد من احترام رغبات الشعب المعبّر عنها في صناديق الاقتراع، فإن الإشارات التي يبعث بها اللاعبون الكبار، وبالذات في موسكو وواشنطن، لا بد أن تؤثر في المزاج الشعبي العام. وحتى الآن، يظهر أن خيارات موسكو واضحة، بينما تحوم علامات استفهام كبيرة حول نوعية الدعم الغربي للشارع المؤيد للتكامل مع أوروبا والتقارب مع الغرب.
في أوروبا، كما في معظم دول العالم ومنها العالم العربي، تعدّدية سكانية قد يُمكن تجاهلها تحت شعارات متعددة، لكن الشيء المؤكد أن عواقب القمع المتمادي غير مضمونة، في حين أن التوصل إلى صيَغ تعايش حضاري تشعر معها كل المكوّنات بمصلحة مشتركة هي الضمانة الأقوى ضد التناحر والفتن والتقسيم.
هذا هو الدرس الذي تقدّمه الأزمة الأوكرانية اليوم شرقاً وغرباً.