ثمة تساؤل يفرض نفسه هذه الأيام: إذا ما تخلت الولايات المتحدة عن النظام الدولي الليبرالي الذي شيدته، هل بمقدور هذا النظام البقاء؟
كان هذا التساؤل الجيوسياسي المحوري الذي فرضته رئاسة دونالد ترمب. وحتى هذه اللحظة، يعكف حلفاء وثيقو الصلة بواشنطن على محاولة سد الفراغ الناشئ عن تراجع واشنطن عن دورها القيادي عالمياً، بهدف الحيلولة دون تآكل منظومة قدمت للعالم خدمات جليلة على امتداد فترة طويلة.
ومع هذا، تبقى مثل هذه الجهود مجرد حلول مؤقتة لأزمة على صعيد القيادة العالمية خلقها ترمب. منذ اللحظة التي أعلن ترمب ترشحه للرئاسة عام 2015 بدا واضحاً كراهيته للنظام الدولي الذي صاغته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. كانت أجيال من الرؤساء السابقين قد نظرت إلى العمل على تعزيز نظام عالمي مستقر جيوسياسياً ومنفتح اقتصادياً وليبرالي آيديولوجياً باعتبار ذلك يخدم المصالح الأميركية ـ وهي استراتيجية تساعد أميركا على البقاء آمنة ومزدهرة وحرة عبر معاونة دول أخرى على أن تصبح آمنة ومزدهرة وحرة.
ومع هذا، نظر ترمب إلى هذا المشروع باعتباره سلوكاً أحمق من الناحية الجيوسياسية يسمح لدول أخرى باستغلال الجهود الأميركية مجاناً دون مقابل. جدير بالذكر أنه خلال خطاب التنصيب الذي ألقاه ترمب، قال: «لقد ساعدنا في إثراء دول أخرى في الوقت الذي اختفت ثروتنا وقوتنا وثقتنا ببلادنا».
وانسحب ترمب أو هدد بالانسحاب من الكثير من اتفاقيات التجارة الحرة. كما قلل من أهمية حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية، وسعى لبناء أواصر مشتركة مع دول - تحديداً روسيا - تشكل التهديد الأكبر لمصالح وحلفاء وقيم الولايات المتحدة. وقد سعى بشكل خاص نحو شعاره «أميركا أولاً» - الأمر الذي يبدو للكثير من المراقبين مناقضاً لمتطلبات الاضطلاع بدور قيادي شامل.
لحسن الحظ، لم يقف أقرب حلفاء واشنطن ساكنين في الوقت الذي اتخذت الإدارة الأميركية هذا المنحى، فقد استجابت اليابان وأستراليا للانسحاب الأميركي من الشراكة العابرة للمحيط الهادي عبر إطلاق حملة فاعلة للحفاظ على الاتفاق دون مشاركة واشنطن. (في الواقع، كانت هذه الحملة على درجة من الفاعلية دفعت ترمب لإحداث جلبة كبيرة حول إعادة تفكيره في مشاركة الولايات المتحدة في الاتفاق).
وبالمثل، اتفقت اليابان والاتحاد الأوروبي على التفاوض بخصوص اتفاقية تجارة حرة ضخمة. وعلى صعيد الشؤون الأمنية العالمية، تخطط فرنسا واليابان حالياً لإجراء تدريبات بحرية في بحر الصين الجنوبي لإظهار دعمهما لحرية الملاحة في مواجهة التحدي الصيني المستمر.
وفي تلك الأثناء، كشف الاتحاد الأوروبي، بقيادة ألمانيا وفرنسا، عن خطط طموحة لتحسين مستوى التعاون الدفاعي الأوروبي، وذلك لأسباب عدة بينها التحوط لمستقبل لا يبدو في إطاره أن أميركا ستلتزم بتعهداتها الأمنية حيالهما. وأخيراً، لا يزال باقي العالم ماضياً في تنفيذ اتفاقيات باريس بخصوص التغييرات المناخية، رغم قرار ترمب الانسحاب منها.
ولا بد أن هذا السلوك يبدو مشجعاً لأولئك الذين يقدرون النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، خاصة أنه شهادة كبرى على نجاح هذا النظام. ومن الواضح أن حلفاء أميركا يرون قيمة عظيمة وراء هذا النظام الذي صاغته واشنطن على امتداد عقود منذ الحرب العالمية الثانية. وعليه، يحاول هؤلاء الحلفاء اليوم الإبقاء على هذا النظام قوياً ومستقراً بأكبر درجة ممكنة حتى تستعيد واشنطن دورها باعتبارها المدافع الأول عنه.
ومن شأن ذلك المعاونة على إبقاء الديناميكيات الإيجابية التي لطالما أولتها القيادة الأميركية الرعاية فيما مضى - الانفتاح والأمن والتعاون الدولي - بمنأى عن التداعيات السلبية لتوجهات مثل الحمائية وغياب الاستقرار والسياسات القومية ضيقة الأفق، على الأقل على المدى القصير.
ومع هذا، ليس بمقدور النظام الليبرالي ولا الولايات المتحدة الازدهار على المدى البعيد دون مشاركة أميركية قوية، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية: أولاً: ربما يدافع حلفاء أميركا عن النظام الليبرالي، لكنهم لا يفعلون ذلك بالضرورة على النحو الذي يفضله الأميركيون. ورغم أن الاتحاد الأوروبي واليابان ودول أخرى تقاوم في وجه التوجهات الحماية، فإن الاتفاقيات التي تبرمها فيما بينها ستكون أقل اتساقاً مع المصالح الأميركية بكثير عما إذا شاركت واشنطن في صياغتها. والواضح، أن ثمة مخاوف تساور المصدرين الأميركيين في هذا الصدد بالفعل. ورغم أن ترمب ربما يظن أن سياسته الخارجية قد تسمح لواشنطن بعقد صفقات أفضل، فإنها في حقيقة الأمر تمنح دولاً أخرى حوافز لعقد اتفاقيات على حساب المصالح الأميركية.
ثانياً: انسحاب ترمب لا يخلق مساحة أمام الحلفاء الديمقراطيين لأميركا فحسب، وإنما يخلي الساحة كذلك أمام دول - تحديداً الصين - التي غالباً ما تتعارض أهدافها مع المصالح الأميركية. والملاحظ أن الصينيين بالفعل زادوا وتيرة تنفيذ مشروعات جيوسياسية وجيواقتصادية كبرى، مثل «المشروع الاقتصادي الإقليمي الشامل» و«مبادرة طريق الحرير الجديد»، والتي ترمي لإلحاق الضعف بالنظام الذي تتزعمه الولايات المتحدة عبر خلق بدائل تتولى زمام القيادة فيها الصين.
أيضاً، عمدت الصين إلى استغلال افتقار ترمب إلى الشعبية على الساحة العالمية من خلال تصوير الصين باعتبارها القائد الجديد للعالم فيما يتعلق بقضايا مثل المناخ والعولمة. وبذلك يتضح أن الانسحاب الصيني يمنح الفرصة لعناصر تشكل تهديداً، وكذلك عناصر حميدة.
وأخيراً: فإنه رغم ضيق صدر بعض حلفاء أميركا إزاء وصفها بأنها «دولة يتعذر الاستغناء عنها»، يؤكد الواقع أن ثمة حدوداً لما يمكن تحقيقه على الساحة الدولية دون تعاون واشنطن. على سبيل المثال، لا يتوقع أحد، ولا حتى غالبية الأوروبيين، تحقيق إنجازات كبرى على صعيد التعاون الدفاعي الأوروبي في عصر ترمب، وذلك لغياب الدور الأميركي وقدرته على سد الثغرات التي تظهر حتماً.
علاوة على ذلك، فإنه من الصعب تخيل اقتصاد عالمي ليبرالي حقيقي قادر على الاستمرار لفترة طويلة دون إقدام أكبر قوتين اقتصاديتين بالعالم - الولايات المتحدة والصين - على اتخاذ مواقف حمائية.
موجز القول إن حلفاء أميركا المقربين بمقدورهم شراء بعض الوقت حتى تعود واشنطن للمشاركة في اللعبة، لكن ليس باستطاعتهم فعل الكثير فيما وراء ذلك. وإذا طال غياب واشنطن، فإن العالم الذي بنته سيبدأ حتماً في التداعي.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
8:37 دقيقه
TT
إخفاق في سد فراغ قيادة العالم
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة