«الديمقراطية» و«النظام الديمقراطي» ليسا جديدين على الفكر الإنساني، فكلاهما قديم قدم الفلسفات اليونانية التي صنفت نظم الحكم على أساس العدد والثروة، والمباشر وغير المباشر. وفي العموم، فإن الفكر القديم لم ينظر لهما نظرة حسنة، حيث كانا قرينين لحكم العوام الأقل علماً وتعليماً وتأثراً بالقيادات الشعبوية. وحتى في العصور الحديثة، فإن كليهما بات الأفضل؛ لأنه لا توجد نظم أخرى أفضل منهما حسب وجهة نظر ونستون تشرشل. كلاهما يقوم على أساس استشفاف مصالح الأمة استشفافاً صحيحاً من خلال تمثيلها في مجالس ومؤسسات تجري فيها عمليات للتداول في الرأي والتدبر في اتخاذ القرارات حتى يصل الجميع إلى أفضل الخطوات التي تحافظ على الدولة من ناحية، والأخذ بيدها نحو الرخاء والرفعة من ناحية أخرى. وتاريخياً، فإن تبني كلا المفهومين امتزج مع مفاهيم أخرى منها الليبرالية والرأسمالية حتى بات المفهومان ممثلين للصيغة السياسية لحزمة من المفاهيم التي تؤكد على الحرية للإنسان، والفردية للسلوك، ومجموعة من القيم التي ترقى إلى مرتبة «الحقوق» الأبدية للمواطن. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي اعتبرت نضالاً إنسانياً ضد الفاشية، فإن صعود الولايات المتحدة إلى مرتبة الدولة العظمى الأولى في العالم؛ ثم بقاؤها وحيدة ومنفردة في هذه المكانة مع شريكها في حلف الأطلنطي الممثل للجماعة الأوروبية منذ نهاية الحرب الباردة، أعطى شهادة صلاحية كبرى لكلا المفهومين.
وفي تسعينات القرن الماضي أعلن فرنسيس فوكوياما «نهاية التاريخ»، حيث لم يعد هناك نظام آخر يستحق النضال ضده؛ وتدافعت دول أوروبا الشرقية، ومعها ومن بعدها تدافعت دول أخرى حتى بات عدد الدول «الديمقراطية» في العالم يفوق الدول «غير الديمقراطية». باتت الحالة نوعاً من «العولمة» السياسية والفكرية والقيمية، فضلاً عن الاقتصادية، التي تقودها دول ديمقراطية. والآن، بعد عقدين من بداية القرن الواحد والعشرين لم تعد كما كانت في أول القرن الجديد، فقد انعكست الآية وفقاً للتصنيف المذكور لدول العالم ما بين الديمقراطية وأشكال مختلفة من «السلطوية» التي قيل عنها أحياناً إنها ديكتاتورية أو أوتوقراطية أو أوليجاركية.
ما حدث من انقلاب وتغيير يمكن إرجاعه إلى التطورات التي جرت خلال العقدين الماضيين في العالم عامة، وفي الدول «الديمقراطية» خاصة حيث قادت «العولمة» إلى خلق حالة من الاغتراب القيمي والاقتصادي والسكاني داخل الدول مما خلق دفعات من رد الفعل الذي تنكمش فيها الشعوب حول هويّاتها الخاصة، وتنظر بشك وريبة في الهويات الأخرى. ولم تكن ظاهرة «ترمب» و«الترمبية» خاصة بالولايات المتحدة وحدها، وإنما شائعة بشكل كبير في الدول الديمقراطية الأخرى أوروبية وغير أوروبية، إن لم يكن في الحكم فقد كانت في المعارضة. ومن الجائز أن نعود بهذا التحول إلى أن الدول الديمقراطية رغم إنجازاتها الكبيرة تكنولوجياً واقتصادياً، فإنها في الوقت نفسه لم تنجح في اختبار قرارات سياسية واستراتيجية ما لبثت أن بدأت عمليات التقويض للنظام الديمقراطي كله. وفي كتاب مهم بعنوان «Dereliction of Duty» للجنرال ماكماستر H.R.McMaster مستشار الأمن القومي في عهد ترمب وصف بتفصيل شديد كيف أن المؤسسات الأميركية المختلفة في الرئاسة والدفاع والأمن فشلت فشلاً شديداً في اتخاذ قرارات الحرب والسلام في فيتنام أدت في النهاية إلى الفشل الاستراتيجي، وخداع الشعب الأميركي. لم تكن الديمقراطية في أحسن حالتها، وبالتأكيد لم تكن الحكمة كافية، ولم تقم المؤسسات المختلفة بدورها في ترشيد القرار. ولم تكن المؤسسات الأميركية أفضل حالاً بعد الأحداث المروعة في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 فقد طغى على المؤسسات الديمقراطية الأميركية غرائز للانتقام إلى الدرجة التي جعلت الولايات المتحدة تدخل حرباً في أفغانستان وأخرى في العراق انتهت كلاهما، ليس إلى إقامة الديمقراطية في البلدين، وإنما بفوز جماعات فاشية وإرهابية لكي تسيطر على البلدين وتضر في الوقت نفسه بأمن الولايات المتحدة والأمن الدولي.
في كتابه «أيام النار أو Days of Fire» وصف بيتر بيكر حالة صنع القرارات الخاص بالحرب والسلام على الوجه التالي: كان هناك من اللوم ما يكفي الجميع. الرئيس الذي وصل إلى البيت الأبيض لكي يكمل ما تركه والده من دون استكمال (إسقاط نظام صدام حسين في حرب الخليج الأولي). ونائب للرئيس كان مقتنعاً بالأخطار القادمة من بغداد والتي دفع فيها بالمعلومات الاستخبارية التي تؤيد استنتاجاته. ووكالة مخابرات مركزية كثيراً ما تجاوزت الأصوات المختلفة لكي تنتج ما تريده القيادة. ومعارضة ديمقراطية كانت مستعدة للانحناء أمام الرياح السياسية والاعتقاد في صحة الأدلة المعيبة نفسها. ومؤسسات الاستخبارات الخاصة بالحلفاء في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا والتي مرت من خلال تأكيدات خفيفة، ووثائق مزيفة، و«فبركة» واسعة النطاق، من دون مشاركة في المصادر. وديكتاتور عراقي لم يكن قادراً أبداً على تجاوز الاعتقاد أن أميركا لن تتبع التهديد الذي قدمته. وأجهزة إعلام جرى أسرها منذ لحظة 11 سبتمبر، وأعطت السيادة لمؤشرات أسلحة الدمار الشامل بينما تقلل من شأن الشكوك.
لم يكن النظام الديمقراطي في أحسن حالاته كفاءة وقدرة على إصدار قرارات رشيدة، ولا كان في أحوال أخرى دائماً ما يقدم نفسه باعتباره محتكراً للحقيقة والحكمة. وخلال العقود القليلة الماضية قدمت دول العالم المختلفة نماذج كثيرة للحكم كان فيها الإخفاق كما كان فيها الإنجاز والتقدم. والحقيقة هي أن وضع النموذج الديمقراطي الناجح وحده بالضرورة، في مواجهة النموذج «السلطوي» الفاشل أيضاً بالضرورة فيه الكثير من التجني على قدرات نظم سياسية مختلفة على التعامل مع مشكلات وقضايا العصر دونما تصدير وفرض على دول العالم الأخرى والمختلفة في العمليات التاريخية لتطورها. عالم السياسة المصري الدكتور جمال عبد الجواد لفت النظر في مقال له في الأهرام الغراء بتاريخ 25 مارس (آذار) الحالي بعنوان «التفكير النقدي أم التفكير البناء؟!» إلى الفارق ما بين التجربتين الأميركية والأوروبية القائمتين على سيادة «التفكير النقدي» باعتباره حجر الزاوية في حرية الفكر ودفع المجتمعات نحو التغيير والتقدم؛ والتجربة الآسيوية التي ترى في النقد انطواءً على معاني الاختلاف والصراع والشقاق والهدم والتقويض والتحدي، بينما «البناء» يعلي من شأن التواصل والوحدة والانسجام التي ربما تكون دول أخرى أكثر حاجة لها في تقدمها إلى الأمام.
قبل أسبوع جرت مناقشة في القاهرة حول ما صدر عن الرئيس جو بايدن بعنوان «الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي» والذي يضع الأسس التي يراها الرئيس ضرورية خلال المرحلة المقبلة والتي تتعامل مع التغيرات العالمية التي جرت خلال السنوات الأخيرة.
بالإضافة إلى أمور أخرى، فإن «الديمقراطية» تبدو كما لو كانت رأس الحربة الفكرية والقيمية والآيديولوجية التي سوف تعطي القيادة للولايات المتحدة في العالم، وتهب دول العالم الأخرى الكثير من السعادة والأمل في مستقبل أفضل. التجربة الأميركية بلا شك مثيرة ومهمة، ولكنها ليست بالضرورة التي تناسب الدول والمجتمعات الأخرى؛ وفي التجربة ذاتها دروس تثبت الحاجة إلى درجات أعلى من التواضع!
8:37 دقيقه
TT
هوامش على دفتر الديمقراطية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة