زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

حديث الأمير والمواطنة واللغة الجديدة

ذات يوم وقف رجل أنيق الهندام أمام سقراط متباهياً ومفاخراً بمظهره، فقال له الفيلسوف الشهير: تكلم حتى أراك. وكأنه يقول إن قيمتك ومكانتك تكمنان في فكرك وعقلك، فالعبرة ليست بالمظهر والشكل، وإنما بالمضمون والهيكل.
عندما تتم التفرقة أو الازدراء أو التفضيل بسبب الجنس أو المذهب، اللون أو العرق، فإن ذلك يعني تعصباً وانتقاصاً بقيمة هذا الإنسان وانتهاكاً لحقوقه وضرباً لقيمة العدالة، ما يعني أنها وبصراحة عنصرية بغيضة ترسخ مفهوم التمييز بين الناس. العنصرية مرض اجتماعي مقيت وضيق أفق يصيب النسيج المجتمعي فيمزقه ويفتته.
كافة السلوكيات والألفاظ والإشارات والكلمات التي تنطوي على تحقير الآخرين، أو الانتقاص من الآخرين، أو تحقيرهم أو معايرتهم بصفة أو نسب أو عرق أو لون أو مذهب على سبيل التهكم والسخرية.
السلوكيات التي تعلي من شأن فئة، فتعطيها الحق في النظر بدونية لفئات أخرى، لكونها لا تنتمي للعرق ذاته، أو الانتماء، أو الأصول، ما هي إلا سقوط وضيع لقيمة الإنسانية. هناك ألفاظ عرقية ودينية مخجلة متداولة تتعلق بالنسب واللون والمذهب، علاوة على عقدة التفوق والشعور الاستعلائي على الآخرين.
من المرات القليلة، وربما النادرة، أن يكون هناك حديث لقائد وشخصية قيادية كبيرة في منطقتنا العربية يتناول ملفات تدور في حلقة المسكوت عنه، بدليل التفاعل الشعبي والاهتمام بما يطرحه الأمير محمد بن سلمان، في مقابلاته الصحافية، من أفكار وآراء شجاعة غير مسبوقة. الأمير كان أن تحدث لمجلة «أتلانتيك» الأميركية، وطرح ملفات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وحفلت المقابلة بتصورات مستقبلية وإجابات مستفيضة حول مسائل عديدة. يشعر السعوديون بتفاؤل واطمئنان وطموح لما هو قادم في ظل مؤشرات وإنجازات وأرقام محفزة للمراحل التي وصلت إليها «رؤية 2030» وما تم بشأن مستهدفاتها. الرؤية والإرادة والواقعية وقدرة اتخاذ القرار ومواجهة النتائج والتعاطي معها كلها أدوات مفصلية في شخصية ولي العهد السعودي، الذي استطاع من خلالها أن يجعل بلاده تحت الأضواء بصورة أكثر إشراقاً. الفلسفة السياسية التي ارتكزت إليها التجربة السعودية ساهمت بلا أدنى شك في نضوجها تدريجياً عبر التاريخ، لتجسد استقراراً سياسياً وأمنياً مقبولاً في ظل معطيات وتحولات في منطقة عُرف عنها عدم الاستقرار بدليل المحطات التاريخية التي عاشتها السعودية، فرغم حجم التحديات ومخاض المتغيرات وتسارعها، برهنت على الترابط واستباق الأحداث ووضع السيناريوهات للقادم من الأيام.
كثيرة هي النقاط اللافتة في مقابلة ولي العهد، ولكن ما لفتني حقيقة حديث الأمير حول الأديان والمذاهب، والتعاطي مع التنوع المذهبي، واحترام المواطنة، والتشديد على المساواة، وأنه لا تمييز بين شخص وآخر، وأن الجميع سواسية أمام القانون.
قوة الكلام لا تلبث أن تتجلى عندما تأتي مصاحبة ومعززة للأفعال. الشعارات والدعايات والفلاشات جاذبة ومغرية لا شك، ولكنها لا تلبث أن تتلاشى، كونها لا تستند إلى أرضية صلبة. الفارق يحدث للعناوين الكبيرة عندما تترجم على الأرض فتصبح كياناً مجسداً ومؤثراً ولافتاً. لاحظ على سبيل المثال الأمير محمد بن سلمان يقول إن «السعودية لديها المذهب السني والشيعي، وفي المذهب السني توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية، ولا يمكن لشخص الترويج لأحد هذه المذاهب ليجعلها الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في السعودية». لغة نادرة لم يسبق لها الظهور في العهود الماضية، ولم يعتد السعوديون على هكذا لغة مباشرة وصريحة، ولكنها شاءت الأقدار أن تطفو على السطح في عهد الملك سلمان وبرعاية ولي العهد.
تبين أن ما يجري في السعودية يتعلق برؤية استراتيجية جاءت كضرورة، وليست شعاراً دعائياً أو ترفاً، ووفق جدول زمني لتحقيق مصالح وتطلعات الشعب بدءاً بترسيخ دولة مدنية وعصرية ملتزمة بدستورها ونظامها الأساسي للحكم، وتعتز بهويتها الوطنية، ومرتكزة على الاعتدال والوسطية والانفتاح كفكر ومنهج حياة. علماء دين سعوديون شيعة، كالمصطفى والسلمان والصفار، «اتفقوا على أهمية ترسيخ القيم والأفكار التي طرحها الأمير، واعتبروها جميعهم لبناتٍ أساسية لدولة قوية يشترك في تنميتها جميع السعوديين بمختلف مذاهبهم ومناطقهم وأعراقهم».
إن تداعيات هذا الحديث بطبيعة الحال تتجاوز المحلي، وتتصل بالإقليمي، وأبعد من ذلك، لأن أبعاده كما أتصور ستحقق بعداً حضارياً مفصلياً في تشكيل مجتمعاتنا اجتماعياً وثقافياً، وتساهم في مواجهة وباء الطائفية والمذهبية والصراع الفكري الذي استشرى في جسد العالم الإسلامي، وتفتح الباب لمراجعة الخطاب الديني بما يقطع الطريق على استغلاله من هذه الجماعات الهمجية. اتخاذ هذه الخطوات التنويرية والإصلاحية، هدفها في تقديري بلورة أفكار وصيغ للتقريب بين القواسم المشتركة من أجل خلق وثبة تدفع المجتمعات الإسلامية للتأمل ومراجعة سلوكها. هذا المناخ يدفع باتجاه خلق حوار فاعل لينتج عنه سلوك حضاري، وبعد إنساني في عالمنا العربي والإسلامي يتجاوز بهما مرحلة التشرذم والاصطدام، وليس خلق صراعات فكرية وعقائدية لا يرتجى منها سوى التناحر والهدم.
هذه اللغة تعزز الوحدة الوطنية، وتعمق مفهوم المواطنة، حيث المساواة، فلا تمييز ولا تفرقة ولا عنصرية. فالوطن للجميع، والقيادة بالتالي ترفض التمييز والتصنيف والتهميش، ما يعني ترسيخ مؤسسة الحكم، وبقاءها، وحماية الوحدة الوطنية من التفكك والتمزق والانقسام.