حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

عن الذين يصفون أنفسهم بالعداء المطلق لكلّ تدخّل أجنبيّ

بين فينة وأخرى يظهر مَن يعيّر سواه: أنت دعوتَ إلى التدخّل الأجنبيّ في بلدك. وبغضّ النظر عن مدى صحّة انطباق التهمة على المتَّهمين بها، يرقى «عدم التدخّل» إلى عقيدة، بل إلى دين، عند بعض دعاته.
الأمثلة غالباً ما تُضرب بالعراق، حيث حصل تدخّل أميركيّ كامل، وبليبيا، حيث حصل تدخّل أطلسيّ جزئيّ. فهل أنّ عراق البعث وليبيا القذّافي لم تكن تشوبهما شائبة تستدعي التدخّل؟ بعض دعاة عدم التدخّل ينفون إعجابهم بالنظامين، ولا ينكرون الحاجة إلى تغييرهما، لكنّهم يضيفون، صراحةً أو ضمناً، أنّ الشعوب هي التي تتولّى التغيير بنفسها.
بيد أنّ النظام العراقيّ المذكور استمرّ من 1968 حتّى 2003: 35 سنة تخلّلها عدد من الحروب وما لا يُقدّر من الضحايا والأكلاف، فضلاً عن العذابات الهائلة التي عاناها السكّان. مع هذا كلّه، لم يتمكّن العراقيّون من إطاحة ذاك النظام. أمّا ليبيا فاستمرّ نظامها من 1969 حتّى 2011: 42 سنة من حكم الاعتباط القذّافيّ الشهير، ولم ينجح الليبيّون في إطاحته.
بطبيعة الحال، يُستحسن أن يتمكّن الشعب من إطاحة أنظمة كهذه من دون تدخّل خارجيّ. ذلك ما لم يحصل. ولأنّه لم يحصل، فهذا بذاته ينمّ عن أزمة في «الشعب» نفسه وعن تكسّرات داخله لم يفعل هذا النمط من الأنظمة سوى توسيعها وتعميقها. هكذا ما أن سقطت تلك الأنظمة حتّى ظهرت التكسّرات بطلاقة وتعبيريّة غير مسبوقتين. الاحتلالات والتدخّلات قد لا تكون بريئة من ذلك، إلاّ أنّ دورها يبقى هزيلاً وهامشيّاً بالقياس إلى دور التاريخ المحلّيّ المديد الذي توّجتْه تلك الأنظمة.
فهذه الأخيرة جمعت إلى فشلها شبه الكامل في كلّ شيء تقريباً نجاحاً شبه كامل في تفتيت شعوبها وتعزيز انتماءاتها الموروثة. لقد أمعنت في تدمير النسيج الوطنيّ فخرّبت المستقبل بعد تخريبها الماضي والحاضر.
دعاة «عدم التدخّل» لا يفترضون فحسب أنّ الشعوب تبقى سليمة في ظلّ تلك الأنظمة، وأنّها تظلّ واحدةً وحدةً لا تقبل الانقسام، بل يفترضون أيضاً أنّ التغيير، كي يكون مقبولاً، ينبغي أن يشبه الانتقال دفعة واحدة من الجحيم إلى النعيم. وما دام أنّ النعيم ليس في الأفق فالأفضل التمسّك بالجحيم.
لكنّ الأمر ليس مجرّد تأويل نظريّ، وهذا ما يحمل على الظنّ أنّ أولئك الدعاة يحبّون، في أعماق أنفسهم، البقاء في ذاك الجحيم. وحين يكونون هم أنفسهم مقيمين في «الغرب الإمبرياليّ»، تكون رغبتهم الفعليّة دفع غيرهم إلى العيش في ذاك الجحيم «الوطنيّ». إنّهم، والحال هذه، حلفاء لذاك الجحيم: براهين ذلك أنّهم «لم ينتبهوا» إلى التدخّلين الراهنَين الإيرانيّ والروسيّ الداعمين لبشّار الأسد في سوريّا، لأنّهم مشغولون بمكافحة التدخّل الأميركيّ الذي لم يحصل عام 2013 والذي كان المتوقَّع أن يوجّه ضربة إلى الأسد. أمّا البيئة السياسيّة التي يصدرون عنها فغير معروفة بإدانة تدخّلات من عيار التدخّلين الروسيّين في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، أو التدخّل الكوبيّ في أنغولا، أو غزو صدّام حسين للكويت...
هناك إذاً، في الغالب، تدخّلٌ مقبولٌ معظمُه محكوم بالحفاظ على أوضاع استبداديّة قائمة، وتدخّل مرفوضٌ بعضُه الكثير، وإن لم يكن كلّه، محكوم بتغيير تلك الأوضاع. وهذا ما يثير الشكوك حول مبدئيّة من يقولون إنّهم يرفضون التدخّل الأجنبيّ بالمطلق كما يتمسّكون بالمطلق بمبدأ سيادة الدولة الوطنيّة.
فوق هذا، فهم مثلما يتوهّمون شعوباً لا تخترقها التناقضات، فإنّهم يتوهّمون بشراً آيديولوجيّين بلا أجساد ولا نفوس. فالسوريّون الذين يتحمّلون التعذيب والألم منذ 1963، أو أكراد العراق الذين ضُربوا بالكيماويّ، يُفترض بهم، كي يحظوا باحترام هؤلاء، أن يرفضوا التدخّل الأجنبيّ بكلّ إباء وشمم!
بشرٌ كهؤلاء لا يوجدون، لحسن الحظّ، في الواقع.
هذا لا يقال حبّاً بالغرب أو حبّاً بالتدخّل الغربيّ. صحيح أنّ الغرب لا يتدخّل دائماً لأجل الديمقراطيّة، لكنّه أحياناً كثيرة يفعل. وصحيح أنّ تدخّلاته يُفترض أن تخدم مصالحه أيضاً، لكنّ تلك المصالح أقلّ كلفة بكثير من كلفة النظام الاستبداديّ أو التوتاليتاريّ الذي يعجز شعبه عن إزاحته.
ما يفوت هؤلاء دائماً أنّ السؤال الحارق في يومنا هذا لم يعد خرافاتهم عن التدخّل واللاتدخّل. إنّه انهيار المشاريع الوطنيّة والاستقلاليّة واحداً بعد الآخر. إنّه ولادة الاشتهاء الجماهيريّ المعمّم لتدخّلات لن تحصل للأسف. أمّا آخر الأعراض المأساويّة لذاك الانهيار فتلك الهجرات المليونيّة التي ضربت ما تبقّى من مقوّمات وطنيّة لكلّ سياسة. لكنّ أكثر أعراضه الملهاويّة فأفكارهم البلهاء عن التدخّل.