مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

ماذا لو أغلقت واشنطن سفارتها في بغداد؟

أدخلت الولايات المتحدة تطوراً خطيراً جديداً على المشهد العراقي بتهديدها بغلق سفارتها في بغداد، لتضع ضغطاً جديداً على حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. وقد أبلغ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الرئيس العراقي برهم صالح، بأن بلاده تتجه إلى غلق السفارة إذا لم تستطع القوات العراقية حماية السفارة الأميركية وغيرها من البعثات الدبلوماسية، بعد تصاعد الاعتداءات المتتالية على البعثات الدبلوماسية وعلى الفرق اللوجستية الداعمة لها ولقوات التحالف.
ويدل هذا القرار على عدم تقبل واشنطن لتبريرات الحكومة العراقية لاستمرار تلك الهجمات وإخفاقها في السيطرة على المجموعات المسلحة خلال الأشهر الماضية. إغلاق السفارة يشير إلى أن واشنطن لا تثق بقدرة القوات العراقية التي قامت هي بتدريبها كما يظهر أن المسؤولين الأميركيين لا يرون الوضع الأمني في البلاد يتجه بالاتجاه الصحيح. ولكن في الوقت نفسه قد يدل على أن واشنطن تدرس إمكانية توسيع خياراتها في مواجهة الميليشيات - من دون أن تترك ثغرة أمنية. فعندما يدرس الرئيس الأميركي دونالد ترمب خياراته في مواجهة الميليشيات، هناك دوماً دراسة لاحتمالات الرد على الولايات المتحدة، ومنها إمكانية ضرب المصالح الأميركية، على رأسها السفارة الأميركية.
في المحصلة، تخشى الإدارة الأميركية من احتمال تكرار سيناريو الهجوم على بعثة دبلوماسية لها، على غرار ما حدث لبعثتها في بنغازي عام 2012. اقتحام محيط السفارة الأميركية في بغداد ديسمبر (كانون الأول) الماضي، سلط الضوء على هذا الخطر الذي من الممكن أن يقف وراءه عناصر مرتبطة بالحشد الشعبي، تتسلم رواتبها مباشرة من الخزينة العراقية، بينما جهات أخرى لديها تمثيل بالبرلمان العراقي. والتصريحات المتكررة لميليشيات مثل كتائب «حزب الله» و«عصائب أهل الحق» بأنها تعتزم «إخراج الأميركيين» من العراق، التي تنضوي قواتها ضمن الحشد الشعبي الذي من المفترض أن يكون تابعاً للقوات المسلحة تحت إمرة رئيس الوزراء، دليل آخر على الخلل الجذري في التركيبة الأمنية في البلاد.
وبينما تتسارع وتيرة الإشاعات حول إغلاق السفارة الأميركية - مثل انتقال السفير الأميركي في بغداد إلى أربيل وهذا خبر غير صحيح - تحاول القوى السياسية العراقية أن تتدارك الأمر. وقد استضاف الرئيس العراقي صالح كلاً من رئيس الوزراء الكاظمي ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي ورئيس القضاء الأعلى فايق زيدان ليل الأحد، ليخرجوا بعدها ببيان يعلن «دعم جهود الحكومة في حصر السلاح بيد الدولة، ومنع استهداف البعثات الدبلوماسية التي تقع مسؤولية حماية أمنها وسلامة منشآتها وأفرادها على الجانب العراقي». كلام مهم لكنَّه لا يشكل تغييراً عن الموقف الرسمي لتلك الأطراف. وقد أوفد رئيس الوزراء العراقي وزير خارجيته فؤاد حسين إلى طهران يوم الأحد، على أمل أن يأتي بنوع من التهدئة. فكان رد الرئيس الإيراني بتصريحات علنية مفادها أن «الوجود الأميركي يضر بأمن المنطقة». بالطبع لن تمدَّ طهران يد العون للحكومة العراقية في هذه المرحلة لإبقاء الأميركيين، بل ستعمل بكل جهدها لإخراجهم لتصبح هي القوة الأكثر نفوذاً.
من جهة أخرى، خرج مقتدى الصدر ببيان يعلن فيه رفضه استهداف البعثات الدبلوماسية، ليعطي لنفسه وقواته مجالاً للتصرف بعيداً عن الميليشيات التي يشير إليها الكاظمي بأنها قوات «خارجة عن القانون». الانقسامات التي تعصف بالقوى الشيعية المسلحة تتفاقم في هذه المرحلة وتعكس الاضطراب الداخلي لتلك المجموعات الذي من الممكن أن يشكل فرصة لخلق تحالفات جديدة وطنية ترفض استهداف مصالح العراق وتعريض مؤسساته لمزيد من الانقسامات.
مصطفى الكاظمي الذي قام بزيارة ناجحة إلى البيت الأبيض قبل شهرين يجد نفسه اليوم في ورطة بسبب التحرك الأميركي. فإذا تحرك الآن ضد الميليشيات سيظهر كأنه ضعيف ويتحرك بسبب الضغوط الأميركية، على الرغم من جهوده منذ اليوم الأول لتوليه منصبه في حصر السلاح بيد الدولة. وإن لم يقم بتحرك قوي، تفادياً لمواجهة محتملة بين الفصائل المسلحة، ستغلق واشنطن سفارتها وتضعف موقفه بشدة أمام المجموعات المسلحة المدعومة من طهران. لكن التحرك ضد الميليشيات في النهاية سيصب في مصلحة البلاد وسيقنع نسبة كبيرة من الشعب بأنه جادٌ في تنفيذ وعوده ببسط الأمن في البلاد وحماية سيادة الدولة.
توقيت التوجه الأميركي مرتبط بتطورات عراقية وأميركية. فداخلياً، العراق على أبواب شهر أكتوبر (تشرين الأول) وسط استعدادات نشطاء للنزول مجدداً إلى الشارع، بينما تقول مصادر عراقية مقربة من الحكومة إن أحزاباً وميليشيات قد حشدت للنزول إلى الشارع وقلب المظاهرات من طابعها السلمي لتصبح مسلحة أو على الأقل مسيسة ضد الحكومة. أما خارجياً، فلا شك بأن الانتخابات الأميركية تلقي بظلالها على العراق. وتأتي هذه التطورات ضمن تحركات البيت الأبيض للظهور بأن الرئيس ترمب يحمي المصالح الأميركية أولاً.
لا يمكن للرئيس الأميركي أن يتحمل خطر مقتل أميركي في العراق وهو في الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية. كما أن المرشح الديمقراطي للرئاسة جو بايدن معروف في العراق بسبب «خطة بايدن» التي اقترحها عام 2006، وهو في مجلس الشيوخ. «خطة بايدن» طرحت تقسيم العراق على أسس طائفية وعرقية، وهي تمثل الطريقة التي ينظر بها بايدن إلى كثير من أزمات المنطقة. في حال فاز بايدن بالانتخابات، فإنَّ الديمقراطيين سيسعون إلى تحسين علاقاتهم مع طهران، والأهم من ذلك أن يظهروا أنفسهم مختلفين تماماً عن عهد ترمب، ما قد يدخل تغييرات جديدة على الساحة العراقية. ولكن ما زالت هناك خمسة أسابيع قبل موعد الانتخابات قد تقلب الحسابات.
تداعيات قرار إغلاق السفارة الأميركية ستتبلور وفق الإجراءات التي تلي الإغلاق، في حال حدث. الخطوة التي تقول أميركا إنها تهدف من ورائها إلى دفع حكومة الكاظمي للتعامل بجدية مع التهديد الأمني في البلاد قد تكون هي التي تزيد الوضع الأمني إرباكاً، إلا إذا كانت واشنطن تمهد لاستراتيجية متكاملة بالتعاون مع الحكومة العراقية لوضع حد للميليشيات. فلم يكن بإمكان أحد أن يتوقع استهداف الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وقائد الحشد الشعبي في العراق أبومهدي المهندس الذي وقع في 3 يناير (كانون الثاني)، ولكنها فعلت ذلك واستطاعت أن تخلط الأوراق على الأرض. فهل ستقوم بتحركات محددة تذهب برؤساء ميليشيات يكررون علناً عزمهم محاربة الحكومة العراقية والقوات الدولية التي توجد في البلاد بموجب طلب تلك الحكومة؟ وإن لم تتخذ إجراءات إضافية بعد غلق السفارة، ستكون طهران والمجموعات التابعة لها قد حققت نصراً إعلامياً وفعلياً على الأرض، حيث تظهر واشنطن أنها انسحبت بسبب ضغوط تلك المجموعات.
قرار الإغلاق ليس سهلاً، ولن يحدث بين ليلة وضحاها، بل من المتوقع أن يستغرق أسابيع عدة. كما أن سفارات 12 دولة أخرى معتمدة في العراق تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة من حيث الترتيبات الأمنية واللوجيستية، قد تسحب سفاراتها أيضاً في حال أقدمت واشنطن على غلق سفارتها في بغداد. وجميع المؤشرات تدل على أنه في حال تم قرار الإغلاق، لن تعود السفارة بسرعة. فبينما نطلب من الأميركيين التريث في اتخاذ قرارهم، على الحكومة العراقية التحرك بسرعة لإظهار جديتها في مواجهة خطر الميليشيات من خلال كبح جماح جدي للجهات التي تعبث علناً بأمن السفارات، والأدهى من ذلك، بأمن العراق.