أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يوم 11 يناير (كانون الثاني) الحالي، اتصالاً بالرئيس جوزيف عون، مهنئاً إياه بمناسبة انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، ومقدماً له الدعوة لزيارة المملكة؛ ليعلن عون ترحيبه بالدعوة السعودية، وأن الرياض ستكون وجهته الأولى في زياراته الخارجية.
قبلها، في 26 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، زار جوزيف عون السعودية، حينها كان قائداً للجيش اللبناني، ملتقياً وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، حيث جرى استعراض «العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين في المجال العسكري»، وفق ما كتب الأمير خالد بن سلمان في حسابه على منصة «إكس»، مضيفاً أنه تم بحث «مستجدات الأوضاع في لبنان، والجهود المبذولة بشأنها».
بين المكالمة واللقاء، كانت هنالك جهود سعودية سياسية، واتصالات مع جهات لبنانية وعربية ودولية مختلفة، من أجل دعم اللبنانيين في عملية انتخاب رئيس للجمهورية، حتى لا يستمر الفراغ الرئاسي، وهو الأمر الذي تم بالفعل، وكذلك تسمية القاضي نواف سلام رئيساً للوزراء في 13 يناير الحالي، بعد المشاورات التي أجريت في القصر الجمهوري، وهذا ما يعني أن هنالك رؤساء في السلطات الثلاث، وأن العملية السياسية صار بإمكانها أن تدور عجلتها بطريقة دستورية أكثر سرعة وسلاسة، والآن بانتظار تشكيل حكومة جديدة، ستكون مؤشراً على مدى قدرة اللبنانيين على إدارة شؤون الدولة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، والمتغيرات الكبيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة، من دون إغفال للتبدلات التي طالت موازين القوى الإقليمية، وتراجع الدور الذي كانت تمارسه إيران عبر «محور المقاومة»، إثر الضربات المكثفة التي أصابت كلاً من «حزب الله»، و«حماس»، وأيضاً انهيار نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، ما يعني خروج دمشق نهائياً من «المحور»، وبالتالي فقدان «حزب الله» لخطوط الإمداد عبر الأراضي السورية.
هذه المتغيرات البنيوية قد تفتح شهية بعض الفرقاء اللبنانيين لإعلاء منطق الغلبة، وأنه يوجد فريق منتصر وآخر خاسر، وبالتالي قد تمارس سياسات إقصائية، أقلوية. إلا أن هذا التفكير قصير المدى، لأن السياسات الانعزالية التي تروم فرض القوة على مكونٍ ما، سبق وأن تم تجريبها، منذ الحرب الأهلية عام 1975 وما قبل ذلك. مارسها الفلسطينيون وفرقاء آخرون، ولم تكن نتائجها إلا وبالاً على من انتهجها أولاً، وخطراً على السلم الأهلي في لبنان.
بُعيد انتخاب جوزيف عون، أعلنت الرياض مواقف واضحة على لسان السفير السعودي لدى لبنان وليد بخاري. وحسب بيان للبطريركية المارونية، تمنى البخاري أن يكون «عهد الرئيس عون عهد وفاق وطني جامع، وأن تكون هذه المرحلة مرحلة نمو وازدهار وتطور واستقرار»، مضيفاً: «المملكة ستكون إلى جانب لبنان وشعبه ورئيسه، لا سيما أننا لمسنا الارتياح والفرح اللذين ظهرا على وجه الشعب اللبناني بوضوح بعد انتخابه رئيساً»، وهذه المواقف تبين السياسة السعودية التي تدعم استقرار لبنان بوصفه وطناً لمختلف أبنائه، من دون تمييز على أسس طائفية!
هنالك استحقاقات عدة لبنانياً، يتمثل أهمها في حماية الحدود، ووقف الانتهاكات الإسرائيلية، وعودة النازحين إلى قراهم ومنازلهم، وإعادة الإعمار، وحفظ كيان الدولة من الانهيار وبناء مؤسساتها، وترسيخ مبدأ سيادة القانون، ومنع الفساد والمحاصصة السياسية والطائفية، إضافة لحصر السلاح بيد الدولة، وبناء استراتيجية دفاعية وطنية، من دون إغفال للملف الاقتصادي المرتبط بأموال المودعين، وجذب الاستثمارات الخارجية من أجل الدفع نحو خلق فرص عمل جديدة واقتصاد حديث متنوع.
هذه الملفات المُلحة تحتاج إلى تعاون بين مختلف مكونات الشعب اللبناني، والأحزاب والقوى المختلفة، والخروج من التفكير الطائفي والشكوك المتبادلة، وبناء ثقة حقيقية؛ لأن اللبنانيين أنفسهم هم القادرون على أن يكون العهد الجديد مرحلة للتغيير الحقيقي، وهم أمام فرصة تاريخية لبناء دولة حديثة، رغم ما مر بهم من دمار كبير، وفقدان لأرواح آلاف الضحايا ممن قتلتهم إسرائيل وجرفت منازلهم وقراهم!
الدول العربية المؤثرة، وفي مقدمتها السعودية، تدعم اليوم العملية السياسية في لبنان، بما يضمن وحدة أراضيه وأمنه واستقراره، كي يخرج لبنان من صراعات المحاور الإقليمية، لأن هذه الصراعات دفع لبنان ولعقود متتالية ثمناً باهظاً لها من أمنه وتنميته ومستقبل شعبه.
السعودية وطوال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وقفت إلى جانب الشعب اللبناني، ومدّته بالمواد الإغاثية والطبية، وعملت دبلوماسياً من خلال علاقاتها الدولية على إدانة العدوان الإسرائيلي، والضغط من أجل وقف لإطلاق النار يكون مستداماً، ولذا فإن الرياض اليوم تريد للخروقات الإسرائيلية أن تتوقف، وأن يطوي لبنان هذه الصفحة، ويبدأ بالتعافي على مختلف الصعد.
المهمة ثقيلة على كاهل الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، خاصة أنهما آتيان من خارج الطبقة السياسية التقليدية، وستكون أمامهما تحديات داخلية وخارجية كثيرة، إلا أن هنالك دعماً شعبياً ومزاجاً عاماً عربياً بأن لبنان يستحق أن يمنح فرصة جديدة، خصوصاً أن الرئيس جوزيف عون تعهد في خطاب القسم أن يسعى إلى أن تكون للبنان علاقات حسنة مع الدول العربية، وألا يكون ممراً للتهريب أو المخدرات، أو الأعمال التي تضر بالاستقرار.
ليس مطلوباً تحميل لبنان ما لا يطيق، إنما الأهم أن يحسن الفرقاء اللبنانيون ترتيب أولوياتهم، وإدارة السياسات القائمة على الحوكمة والنزاهة، وسيادة القانون، وحصرية السلاح، حينها ستجد بيروت عوناً كبيراً من الدول الداعمة، وسيبدأ الاقتصاد بالتعافي التدريجي، ويرجع السياح والمستثمرون إلى لبنان الآمن والمستقر.