بعد أن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها، أَجْبَرَ المنتصرون ألمانيا على توقيع معاهدة فرساي، التي قبلت فيها بالمسؤولية الكاملة للحرب، وخسرت أراضيها وأسلحتها ومستعمراتها، وقُلص جيشها الألماني إلى 100 ألف جندي. منذ ذلك الحين، لم نسمع قط أن ألمانيا دخلت طرفاً في حرب أو استفزت أحداً. غير أن معاهدة فرساي التي عدت قاسية جداً، قد زرعت بذور الاستياء، وأججت دوافع الانتقام في ألمانيا؛ ما مهَّد الطريق لصعود الحزب النازي بقيادة هتلر الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية. وصف كثيرون في ألمانيا المعاهدة بأنها «مهينة»؛ ولهذا عندما تريد معاقبة خصمك افعل ذلك بحكمة حتى لا تدفعه إلى جنون الانتقام.
القسوة هي استخدام العنف أو الإساءة على نحو يقصد به إيذاء الآخرين، جسدياً أو نفسياً. ومع ذلك، فهي ليست مجرد صفة فردية، بل قد تتجلى كظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية.
وتتقاطع القسوة مع قانون الفيزياء وهو أن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة، ويعاكسه في الاتجاه؛ أي أن تداعيات القسوة قد تكون وخيمة. ولا يتحمل المرء بمفرده وزر قسوته! فهناك من نشأ في كنف والدين كانا يقسوان عليه، حتى صار يحمل قلباً قاسياً ينفض الناس من حوله!
نظرية التعلم الاجتماعي SLT تشير إلى أن سلوكياتنا تكتسب عبر الملاحظة والتقليد، فتجد موظفاً صغيراً يتقمص شخصية أول مدير له، فيمارس القسوة مع الجميع فور ما يتولى منصباً إدارياً، وينسى أن هناك طرقاً عديدة لتغيير السلوكيات بمهنية واحترافية، بعيداً عن الحدة.
نظرية «التعلق» تكشف أن القسوة أو الإهمال في الطفولة قد يتركان بصمات دائمة على شخصية الفرد؛ فالطفل قد يطور تعلقاً «قلقاً» يخشى فيه الرفض، أو تعلقاً يجعله «يتهرب» من العلاقات الحميمة، وربما تعلقاً «عشوائياً» يتخبط فيه بين الرغبة في القرب والخوف منه. هذه الأنماط تشكل ملامح علاقاته المستقبلية، فتضع حاجزاً نفسياً بينه وبين الثقة والاستقرار العاطفي.
القسوة المحمودة (الحزم) تلك التي تمارَس كمرحلة انتقالية لضبط الأمور، لكن «النهج» القاسي لا يثمر سوى مزيد من الشقاق وتحيُّن فرص الانتقام.
والقسوة بحق الذات مثل اللهثة وراء سراب الكمالية، رغم أن الكمال لله وحده سبحانه. وقسوة المحب أقسى ممن هم دونه.
القسوة تُناقِض الفطرة البشرية، وتُولد مقاومة لا التزاماً، وتحطم الثقة؛ ولذلك كانت بدائلها مزيداً من الحوار، والحزم من دون قسوة، والتحفيز بدلاً من التلويح بعصا العقاب.