غريبة حياة الألفاظ! كلما ذكرت كلمة «عربة»، أرى العربة التي تقلّ مدام بوفاري في سهول النورماندي في القرن التاسع عشر في رواية غوستاف فلوبير. كما أستعيد عبارة «عربة اسمها لذّة»، وهي عنوان فيلم أيليا قازان، المستوحى من مسرحية تينيسي وليامز، الذي أطلق مارلون براندو، مع أن العنوان الصحيح هو «ترامواي اسمه رغبة». لكن ما أشير إليه الآن بعبارة «عربة أمام الحصان» هو بعيد كل البعد عن هذه التصورات الروائية والجمالية؛ إذ المقصود بها... البرلمان اللبناني في وضعه الراهن، قبيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية المتعذّر انتخابه منذ عامين وشهرين.
بعد التحولات المفاجئة، خصوصاً في لبنان وسوريا كما في مجمل المنطقة، التي أضعفت إلى حد كبير منظومة «المحور»، مزعزعةً أذرعه العسكرية، وفاصلةً بين ساحاته، استفاق ما يقارب نصف البرلمان اللبناني على «واقع مؤلم» جديد أغرب من الخيال، لا يدري كيف التعامل معه، وخصوصاً أن سبل التعامل مع الواقع كانت دوماً واضحة جلية، محفوظة عن ظهر القلب، على مدى ثلث قرن من هيمنة «المحور» في جناحه السوري، ثم الإيراني. فما العمل؟
يحمل هذا البرلمان في داخله، هو أيضاً، الصراع نفسه الدائر منذ قرنين بين المشروع اللبناني والمشروع الإقليمي فوق أرض لبنان، من صيغته العثمانية إلى صيغته الإيرانية، مروراً بصيغه المتوالية الأخرى. فمن الطبيعي، إثر تداعي «المحور» في المنطقة، أن يجد المشروع الإقليمي نفسه في وضع صعب ومعقّد داخل المجلس النيابي. فكتلتا «الثنائي»؛ «حزب الله» و«أمل»، كما الكتل المتحالفة معهما من طوائف أخرى، هما اليوم أمام امتحان حاسم: أي رئيس جمهورية في الأفق؟
انقضى الوقت الذي كان «الثنائي» يخيّر فيه اللبنانيين بين رئيس من «المحور» أو لا رئيس، مهما طال الزمن. أصبح المرجو الآن هو «الرئيس التوافقي» الذي يضمن في العمق استمرار الوضع القائم بلا تحولات ولا مفاجآت ولا اهتزازات. ومثل هذا الرئيس الذي يتمناه «الثنائي» وحلفاؤه، لا بد أن يستهوي نواباً عديدين من مشارب أخرى يخشون المساءلة وتحريك المياه العميقة الآسنة. لكن هذا المسار الذي يعبّر عن رغبة دفينة لدى ربما أكثرية النواب، يصعب تجسيده في الواقع؛ إذ يضع عربة البرلمان أمام حصان الإصلاح. كان يمكن تمرير هذا النموذج من «الرئيس التوافقي» لو كان الوضع اللبناني على قدر معيّن من السوء تمكن معالجته بالسبل المعهودة، لكنه وضع كارثي حقاً يتطلب حلولاً إصلاحية غير مسبوقة، ودعماً ماليّاً خارجيّاً ضخماً يستحيل تسليمه لغير الإصلاحيين الموثوقين.
انهيار اقتصادي ونقدي وحياتي نادر الحدوث في حياة الشعوب، وانفجار غير نووي من الأكبر في التاريخ، وهجرة كثيفة للأدمغة والاختصاصيين والشباب، ولجوء مليوني من الجوار، وحرب أخيرة دمارها مهول... ومع ذلك، لا بادرة إصلاح واحدة في أي مجال. وصانعو الخراب على مدى ثلث قرن، من رجال سياسة ومال وأعمال وإدارة وقضاء وغيرهم، ومن أهل ازدواجية الدولة الضعيفة والحزب المسلح المهيمن عليها وعلى مؤسساتها، ما زالوا يأملون استمرار الوضع عينه على حاله، كأن شيئاً لم يكن...
ذلك أن شخصية الرئيس الجديد المنتخب هي هذه المرة نقطة تحول تاريخية، تبدأ معها إعادة تكوين السلطة؛ فإما الرئيس الضعيف الحائر والمبهم الهوية الذي يؤمّن استمرارية الخراب، وإما الرئيس الوطني القوي الإصلاحي والنزيه الذي يطلق الخلاص.
من اللافت أن تلجأ قوى الدفاع عن الوضع القائم إلى البرلمان للمواجهة من خلاله. ومن الغريب أن يضحى البرلمان ما يشبه الحصن الأخير لجماعات هي في نواتها الصلبة غير ديمقراطية. وهي لا ترى أن معركتها يائسة؛ إذ تراهن على «التعادل السلبي» في المجلس الحالي، وعلى مخاوف المحاسبة التي تدفع بالعديد إلى ملاقاتها سراً، وتراهن على تغلغلها الطويل في مؤسسات الدولة وهيمنتها عليها، ما لا يزول بين ليلة وضحاها، وتراهن على احتمال اهتزاز الأوضاع من جديد في سوريا وانعكاساته على لبنان، كما تراهن على مواقع قوى أممية وإقليمية لها خبرة في التعامل معها، وهي مواقع تعتقد في العمق، خلافاً لشعاراتها المعلنة، أنه لا سبيل للإصلاح الحقيقي في بلدان العالم الثالث، ومنها لبنان، وتعمل على تحقيق مصالحها فيه لا أكثر... لكن إلى متى يستطيع البرلمان اللبناني الصمود كعربة متوقفة أمام الحصان وسط الخراب؟