المناظرة الرئاسية الأميركية الأولى بين «بايدن» و«ترمب» كانت بحقٍ حديث العالم وشاغلة الناس، لمكانة أميركا بوصفها أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ، ولسبب آخر جديرٍ بالملاحظة، وهو أنها المرة الأولى في التاريخ التي يظهر فيها أحد طرفي المناظرة وكأنه «خيال المآتة» أو «فزّاعة» الطيور، فهو شبه جامدٍ ومتلعثم ومتردد وواجمٌ في بعض الأحيان، وهو ما جعل قيادات مهمة في الحزب الديمقراطي تصف المناظرة بـ«الكارثة» وتسعى لإيجاد بديلٍ عن «بايدن» حتى لا يخسر الحزب قواعده الشعبية، فضلاً عن الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر (تشرين الثاني).
طروحات الحزب الديمقراطي أكثر تماسكاً وقوةً مما مثله «بايدن» في المناظرة، ولو كان لدى الديمقراطيين شخصٌ مثل «أوباما» لاختلفت نتيجة المناظرة، والسؤال المهم ليس عن مستقبل أميركا، بل هو كيف استطاع شخصٌ بهذه القدرات أن يكون رئيس أميركا لأربع سنوات؟ وكيف أن الصراع غير المسبوق داخل أميركا قد دفعها باتجاه انتخاب شخصٍ غير قادرٍ فعلياً على القيادة؟ مع الاعتراف الكامل بتاريخ «بايدن» السياسي الطويل والجدير بالاحترام.
في المقابل، كان ترمب في المناظرة حاضر الذهن حاد التركيز يتحكم في وقته المخصص له بين عرض أفكاره والرد على خصمه أو طروحات خصومه، ويحوّر الأسئلة لما يريد أن يقوله بذكاء، ويجول في معارك الفكر والسياسة كالأسد الجريح، وبغض النظر عن الاتفاق مع ترمب من عدمه، فإن الواضح والجليّ في المناظرة أنه انتصر انتصاراً لا يجادل فيه أحدٌ، وترك قادة الحزب الديمقراطي في ريبةٍ وارتباكٍ وتشتتٍ بين الاستمرار في دعم الرئيس الحالي «بايدن»، والتفتيش في مدة قصيرة جداً عن بديلٍ له يكون قادراً على مواجهة «ترمب» في الانتخابات القادمة.
ثمة أمرٌ جديرٌ بالملاحظة، وهو أن «ديمقراطيي» العرب في بلداننا أو داعمي «الحزب الديمقراطي» الأميركي من العرب، ملوثون فكرياً وثقافياً وسياسياً، وهم منتشرون في الإعلام والثقافة وأكثر في «السوشيال ميديا»، ويشكلون ظاهرة جديرة بالدرس، بينما لا يوجد لدينا مؤيدون حقيقيون لـ«الحزب الجمهوري» الأميركي إلا حالات شاذة لا تشكل ظاهرة بالمعنى السياسي والاجتماعي.
هذه المناظرة غير المتكافئة كشفت عن كثير من المذيعين والصحافيين في وسائل الإعلام العربية المحترمة، وأنهم مندفعون خلف طروحات «اليسار الليبرالي» الأميركي بحماسة تثير الاستغراب، فبعضهم عاجزٌ عن رؤية ضعف «بايدن» الذي أقر به قادة الحزب الديمقراطي وأقرت به كبرى وسائل الإعلام الأميركية المنحازة للديمقراطيين، وهم سيعيدون التموضع في المستقبل القريب حتى لا يكون انحيازهم مكشوفاً.
في تغطية الانتخابات الأميركية دائماً ما تطرح وسائل الإعلام العربية تساؤلاً تقلبه في صيغٍ متعددةٍ؛ مفاده: ما موقف المرشحين للرئاسة أو الحزبين الأميركيين من «القضايا العربية»؟ وهو تساؤلٌ مخادع، لأنه يفترض أن ثمة «قضايا» عربية وأن الموقف منها «موحدٌ» عند جميع العرب، وهذا افتراضٌ غير واقعي وينتمي للأحلام أو الأوهام لا للواقع السياسي القائم.
لا يوجد ما يمكن تسميته «القضايا العربية» في السياسة الخارجية الأميركية، فالحقيقة أن العرب مختلفون تجاه غالبية تلك القضايا، ولهذا فالجامعة العربية في الأصل مؤسسة فاشلة منذ إنشائها، لأنها بنيت على توحيد المواقف وهذا مستحيل، في ظل دول وشعوب مختلفة المصالح والتوجهات، ولئن كانت القضية الفلسطينية مثالاً للإجماع العربي - على اختلافات معروفة تجاهها - فإن التباين فيما عداها هو الغالب. وأوضح الأمثلة على ذلك الموقف مما جرى فيما كان يسمى زوراً «الربيع العربي»، وهو ربيع الفوضى والإرهاب، أو الموقف مما يسمى زوراً «محور المقاومة»، وهو لا يعدو أن يكون غطاء للتوسع الإيراني في الدول العربية.
على مستوى الدول ثمة «إجماع عربي» على «المبادرة العربية للسلام» مع إسرائيل، ولكن على مستوى الجماعات والآيديولوجيات والتنظيمات والميليشيات المنتمية لـ«المحور الإيراني» فثمة رفضٌ لهذا الإجماع العربي، وهذا الرفض يتجلى في كثيرٍ من وسائل الإعلام والطروحات السياسية وله صوتٌ عالٍ وضجيجٌ قادرٌ على التشويش دائماً على الحلول العقلانية والواقعية، وما الموقف تجاه الحرب الإسرائيلية الظالمة تجاه غزة إلا مجرد مثال، حيث قامت سوق المزايدات الفارغة والشعارات الجوفاء من بعض الكتاب والمثقفين العرب، الذين صمتوا صمت القبور بعدما تجلت كل هذه الفظائع التي خدشت الشعور الإنساني بأكمله.
الحزب الجمهوري حزبٌ يمينيٌ محافظ، والحزب الديمقراطي حزب «ليبرالي» سيطر عليه في السنوات الأخيرة «اليسار الليبرالي» بقيادة «أوباما» الذي يعد «بايدن» امتداداً لطروحاته، واليسار الليبرالي تغوّل وتضخّم في الدول الغربية في العقود الأخيرة وهو ما استدعى بمنطق التاريخ أن يتحرك اليمين، وهو ما يجري في غالب الدول الأوروبية التي تشهد حالياً صعوداً لافتاً لتيارات اليمين وأحزابه ورموزه.
أخيراً، فانتخابات أميركا للأميركيين، وما يهمنا منها هو مصالح دولنا واستقرارها.