حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

قبل حلب... المعارضة لم تكن بخير

هل تذكرون فائق المير؟
يوم مجزرة الكيماوي التي أودت بحياة الألوف، كان فائق المير أحد أبرز الأصوات التي فضحت الجريمة. من دوما في الغوطة ساهم مع آخرين بنقل ما يجري للعالم، جمع الوقائع والمعطيات التي تدين نظام الاستبداد، بعدما كان له الدور البارز مع التنسيقيات في تنظيم صمود المناطق التي أخرجتها الانتفاضة السورية إلى الحرية.
فائق المير، شريك رياض الترك في الكفاح والسجون، الذي عرفته كل الميادين، اختفى في دوما المحررة، بعد مجزرة الكيماوي بوقت قصير، ولا معلومات عن مصيره. كل المعطيات تمحورت حول قيام شبيحة النظام السوري باختطافه، ومن أين؟ من داخل المناطق المحررة، في صفقة رُتبت في ليل مع إحدى قوى الأمر الواقع، التي باسم الإسلام كانت تتحكم في العباد.
ما واجهه المير، واجهته قبله أيقونة الثورة رزان زيتوني وسميرة الخليل ورفاقهما. خطفوا في عمل إجرامي مدبر، وهم في عملهم اليومي يوثقون الإجرام اللاحق بالسوريين، ويكشفون الاستبداد عالميا. كانوا أشبه بالشعلة للذين حطموا القيود وأكدوا أن زمن الصمت إلى زوال، وشكلوا مع آخرين الأمل في أن الانتفاضة مستمرة، وأن التاريخ لن يعود إلى الوراء.
اختطاف هؤلاء تم في أوج مصادرة حركات «متطرفة» لانتفاضة الشعب السوري والتحكم في مسارها، بعدما فُرضت العسكرة من خارجها. كل ذلك حدث بعد أشهر قليلة على إفراج النظام السوري عن مسجونين بتهم الإرهاب، وهم مجموعة «أصدقاء صيدنايا»، وأبرزهم الجولاني وزهران علوش وحسان عبود ورفاقهم... وتباعا عرفت المناطق التي حررتها الانتفاضة السلمية قيام إمارات ومناطق نفوذ، أكثر من تريّسها كانوا من أصحاب السوابق، المعادين للناس وأحلام السوريين بالمساواة والعدالة. فجأة «أُمراء» الزواريب الذين كانوا عبئا على الشعب السوري وحربا على ثورته.
يقول العقيد عبد الجبار العكيدي من قادة الجيش الحر، إن الضغوط حولت أركان هذا الجيش إلى ساعي بريد، يتولى إرسال مساعدات لجهات بعينها، بناء على طلب الجهة الواهبة وليس الحاجة أو الضرورة... ما عجّل خطوات تفتيت هذا الجيش وإلحاقه بـ«أمراء فصائل» نبتوا كالفطر. والأمر الذي يدعو للأسف، أن قيادات سياسية في المعارضة غضّت النظر عن هذا التطور الخطير، ووجدت في حمَلةِ البنادق هؤلاء حلفاء في المعركة ضد الاستبداد، وضد ميليشيات مذهبية استُقدمت من شتى الأصقاع لتدمير سوريا وتهجير أهلها. وغضُّ النظر اتسعَ ليتُم تجاهل كل الاستبداد الذي مُورس في المناطق التي خرجت على الظلم، إلى الصراعات الداخلية بين هذه الجهات، ومنها ما شهدته الغوطة، وداخل حلب الشرقية في عز المواجهة، دون أن ننسى تعديات مسلحي «النصرة» على مهجري داريا إلى إدلب!
هذه بعض ما كانت عليه أحوال المعارضة المسلحة قبل حلب، ولو أردنا تسمية الأمور بأسمائها، فإن من طيّف انتفاضة الشعب السوري وأخذها إلى قاع مظلم ما كان لينجح في مخططه، لولا التأييد من جانب قيادات سياسية في المعارضة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن الاجتماع الأخير للائتلاف في إسطنبول، بدا أنه لم يستوعب ما جرى، بدليل تجاهل البيان الرسمي أولوية حماية المدنيين بدعوة الفصائل للانسحاب من المدن، والمقصود هنا مدينة إدلب بعدما باتت سوريا مصغرة بفعل التهجير والاقتلاع، وبالتالي لا أولوية على ضرورة العمل لتجنيبها مصير حلب اليوم وقبلها حمص... ومعروفة خطوات الفصائل المتطرفة التي تقودها «النصرة» لتحويل إدلب إلى قندهار جديدة(...) وتجاهل البيان أيضا ضرورة إعلان القطع مع «النصرة» وبقية الفصائل الإرهابية. وهنا ومن باب تنشيط الذاكرة، نشير إلى أن «النصرة» كفصيل تابع لـ«القاعدة»، تم تصنيعه في أقبية المخابرات الأسدية، بدليل أن شريط أبو عدس الشهير الذي سُوِّق على أنه منفذ عملية قتل الرئيس الحريري، كانت خلفه يافطة كُتب عليها «جماعة النصرة والجهاد - بلاد الشام»... فإلى متى يستمر بعضهم يراهن على مثل هذه القوى؟
دون مبالغة، ضربة حلب مؤثرة جدا، وربما هي نهاية حقبة. نهاية حقبة اختطاف المتطرفين للثورة السورية، التي من دوما الحرة إلى حلب المنكوبة، كانت حقبة المساهمة بأشكال مختلفة في دعم الاستبداد والمدِّ بعمره. وهي أيضا نهاية حقبة الاستئثار والتفرد لقيادات في الائتلاف، التي رهنت مصير الثورة برؤية ضيقة لمجموعة تشكيلات معينة رغم وضوح أجنداتها الخاصة، رغبة منها في إقامة نظام إسلامي لم يكن يوما مشروع ثورة السوريين وحلمهم.
وضربة حلب المفصلية منحت النظام ولو شكلا سيطرة واسعة على «سوريا المفيدة»، كما منحت حلفاءه في الميليشيات المذهبية التابعة للحرس الثوري، سلطات كبيرة في أماكن انتشارها. لكن عملية حلب في حقيقتها، تُعدُّ تتويجا للتدخل الروسي الذي قلب الموازين، ومكّن موسكو من الهيمنة على سوريا وعلى قرارات النظام الأسدي، بعدما رسم الحدود لكل الأطراف، وبدأ العد العكسي لمرحلة حصد الأرباح، وهو مدرك أنها لن تتكرس إلاّ بصفقة كبرى مع الأميركيين ولاعبين محليين وإقليمين، وهذا ما لا يضيره بشيء.
الأزمة السورية باقية وقد عمّقتها الحرب وويلاتها، والكرة في مرمى الائتلاف ومعه كل الوطنيين السوريين، الذين هم أمام تحدي إنجاز مراجعة جريئة للمسارين السياسي والعسكري. مراجعة لبناء قيادة قادرة على استعادة هوية الثورة، واستعادة أشكال من الحراك السلمي، ودون استبعاد الاضطرار للذهاب إلى خوض مواجهات دفاعية في الأرياف المتروكة. مراجعة تسقط التشوهات المتنوعة، وترسم استراتيجية واقعية مرحلية وبعيدة المدى، تجمع قوى الثورة وتفجر طاقات السوريين الكامنة، وتعيد إلى الفعل الملايين ممن هجّرهم النظام في الداخل أو إلى المنافي.