أجبرت العدالة الناجزة مثيري الشغب على التفكير مرتين قبل الانضمام إلى الغوغاء الذين جلبوا الفوضى إلى شوارع بريطانيا، الأسبوع الماضي. وشكَّلت المحاكم التي تعمل على مدار الساعة، والشرطة الحازمة، بشكل مؤقت على الأقل، رادعاً في مواجهة مزيد من العنف، الذي أشعلته وسائل التواصل الاجتماعي على أيدي محرضين يمينيين متطرفين. وحذر رئيس الوزراء كير ستارمر، من أنه «إذا أثرتَ فوضى عنيفة في شوارعنا وعبر الإنترنت، ستواجِه القوة الكاملة للقانون». وكما توقعت الأسبوع الماضي، سلَّط تهديد الاضطرابات المدنية الضوء على نقاط قوة رئيس الوزراء بوصفه مدعياً عامّاً سابقاً. يُذكر أنه عام 2011، دعا ستارمر إلى استخدام كامل قوة الدولة لقمع أعمال الشغب المتفشية في العاصمة.
ومع ذلك، ليس بإمكان ستارمر الاكتفاء بالاعتماد على أمجاده في مواجهة مثل هذا التفشي المزعج لأعمال العنف التي عصفت بالبلاد وصورتها في الخارج. واليوم، يجب عليه التعامل مع تحديين سياسيين عاجلين خرجا من رحم هذه الفوضى.
أولاً: يستغل المشاغبون والمحرضون العنصريون مشاعرَ سخط اجتماعي حقيقية -مع أن جريمتهم، على حد تعبيره، «بلطجة خالصة»، وبالتالي يستحيل تبريرها. رغم ذلك، تبقى هناك خلفية لهذه الفوضى، وليس من قبيل المصادفة أن تقع أعمال الشغب في سبع من أكثر المناطق الحضرية حرماناً في المملكة المتحدة.
اليوم، سيتعين على أي حكومة عمالية معالجة الفشل الاقتصادي، باعتبار ذلك مهمتها الأساسية. ولا يمكنها أن تتحمل أن يجري النظر إليها على أنها تتجاهل السهولة التي تمكن بها مثيرو الشغب من فرض سيطرتهم على المجتمعات المحلية داخل معاقل حزب العمال -بما في ذلك تلك التي تفاخر الحزب باستعادتها من قبضة المحافظين قبل بضعة أسابيع فقط. ثانياً: على اليمين وفي مجال «تويتر»، يجري الترويج لسردية من إيلون ماسك عبر موقع «إكس»، وبدعم من بعض الساسة المحافظين وحزب الإصلاح الشعبوي، حول «كير ذي المستويين»، الذي يشن حملة صارمة على أقصى اليمين، لكنه يُبدي اللين تجاه التطرف اليساري. لا دخان دون نار.
الواقع أن سياسات ستارمر، مثل أغلب زملائه الكبار، تقدمية «يسارية ناعمة» بطبيعتها. وهناك عدد أكبر بكثير من أتباع غوردون براون السابقين مقارنةً بتوني بلير في حكومته. ومع ذلك، يتعين على رئيس الوزراء أن يستقي إلهامه من بلير، الزعيم الأكثر نجاحاً لحزب العمال على الإطلاق، ففي نهاية المطاف، كان الزعيم الانتخابي الأكثر نجاحاً للحزب، الذي صعد إلى السلطة بإعلانه الشهير أن حزب العمال لا بد أن يكون «صارماً في التعامل مع الجريمة، وصارماً في التعامل مع أسباب الجريمة»،
بوجه عام، يجب أن يجري النظر إلى الدولة بوصفها منصفة في فرض القانون والنظام كذلك.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وقعت فظائع باستخدام القنابل في قلب المدن البريطانية هددت بتقويض تماسك المجتمع. ودارت استراتيجية حزب العمال الجديد حول حماية الأقليات العرقية من العنصرية، مع طمأنة الأغلبية البيضاء بأن الدولة ستلاحق أعداء المملكة المتحدة. كما شنت حكومة بلير حملة قمع ضد السلوك المناهض للمجتمع، وعدّتها جزءاً رئيسياً من برنامجها المحلي، وإن كان ذلك قد أحرز درجات متفاوتة من النجاح.
أما البديل لتناول هذه المخاوف، فهو مواجهة كارثة انتخابية. جدير بالذكر هنا أن غوردون براون، خليفة بلير، كان سياسياً ماهراً يتمتع بذكاء قوي، لكنه كان يفتقر إلى القدرة على الاستماع إلى هموم الشعب، وبات محكوماً عليه بالفشل في الانتخابات العامة لعام 2010 عندما سُجِّل له عن طريق الخطأ وصفه إحدى ناخبات حزب العمال بأنها «امرأة متعصبة»، عندما أُثيرت قضية الهجرة على عتبة منزلها. وبعد ذلك، فقدت حكومات المحافظين أيضاً سلطتها عندما قدمت وعوداً باهظة بالحد من الهجرة، عجزت عن الوفاء بها.
بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعد المحافظون كذلك بـ«رفع مستوى» المدن البريطانية التي تعاني الكساد بعد الثورة الصناعية، حيث تتخلف مستويات المعيشة كثيراً عن نظيراتها في الجنوب الإنجليزي المزدهر. وهنا كذلك تقع الخطوط العريضة لأجندة ستارمر.
وربما يحالفه الحظ، خصوصاً أن التغييرات التي أدخلتها حكومة المحافظين الأخيرة على نظام الهجرة، ستؤدي إلى خفض أعداد المهاجرين الشرعيين هذا العام. وهذا، إلى جانب التوقعات الاقتصادية الأكثر تفاؤلاً، يمنحه مساحة للتنفس والعمل على خططه الخاصة لتعزيز أمن الحدود.
يُذكر أن هناك شخصية «بليرية» في قلب حاشية رئيس الوزراء في وضع مثالي لربط الخيوط معاً، وهو مورغان مكسويني، رئيس شؤون الاستراتيجية السياسية المعاون لستارمر، الذي شحذ أسنانه في السياسة عبر مواجهة الحزب الوطني البريطاني الفاشي داخل منطقته الفقيرة في شرق لندن. وعلى غرار المناطق المحرومة، حيث اندلعت أعمال الشغب هذا الأسبوع، كانت المنطقة بمثابة مجمع يلقى فيه طالبو اللجوء. كانت أعداد المهاجرين مرتفعة، واشتعل التنافس على السكن الاجتماعي. من جهته، ركز مكسويني اهتمامه على الجريمة ومشاعر الوطنية لدى أبناء الطبقة العاملة لسحق الحزب الوطني البريطاني في الانتخابات العامة لعام 2010.
إن اللعبة طويلة الأمد التي يتعين على حزب العمال أن يخوضها اليوم، هي تحسين النمو الاقتصادي. أما على المدى القصير، ستكون الحكومة في حالة تأهب لمواجهة مزيد من أعمال الفوضى. إلا أنه على المدى المتوسط، يحتاج ستارمر ومكسويني إلى لغة طمأنة -ليس للبلطجية من البيض الأصليين الذين جلبوا الفوضى إلى الشوارع، ولكن للمجموعة الأكبر من الناخبين الملتزمين القانون، لكنهم يشعرون بالسخط لاعتقادهم أن الأحزاب السياسية التقليدية تتجاهل مخاوفهم.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»