من المستبعد انغلاق الحديث عن آثار الانسحاب الأميركي من أفغانستان؛ حتى وإن خفت التحليل حول الأثر والتأثير، فالبيئة الخصبة لإنتاج العنف لا تزال على أشدها؛ بل إن الحركات المتطرفة كسبت جولة عليا في تلك الحالة الانسحابية الكارثية.
قلتُ مراراً إن المستفيد من الانسحاب من الناحية الآيديولوجية (لا نتحدث عن القوى العظمى وصراع الإمبراطوريات) تياران ملتقيان؛ الأول قوى الإسلام السياسي، التي تنزع نحو تمدين خطابها السياسي ومحاولة إدماجه ضمن قوى الدولة، كما تفعل جماعة «الإخوان المسلمين» ذات الخطاب البراغماتي العالي، و«حزب الله» في لبنان الذي يزعم دفاعه عن الحريات وحقوق الإنسان ودفاعه عن كيان الدولة، والحوثي الذي يصارع العالم على ما يسميها الشرعية.
المستفيد الآخر من الحدث تيار «الجهاد» العالمي، ممثَّلاً بـ«القاعدة» و«داعش». و«القاعدة» لم تغب أصلاً عن أفغانستان، ولا تزال تُستخدم، حتى في هجوم الحركة على «بنجشير» زعمت قوات شاه مسعود أن «طالبان» استعانت بأفرادٍ من «القاعدة». أما «داعش» فخيولها حاضرة منذ فترة، والفرق أنها اليوم علت أسرجتها وغزت محيط مطار كابل بهجوم دموي كارثي، لكن تبقى خطورة «القاعدة» أكبر، وذلك لسببين؛ أولهما أن قادة «القاعدة» عادوا من إيران ومن مناطق ودول أخرى لأفغانستان وسط حفاوة واغتباطٍ بالغَين، وهذا سيضيف إلى الأجيال الجديدة من «طالبان» و«القاعدة» ما ورثوه من «صديقهم» أسامة بن لادن، فـ«القاعدة» لديها حضورها الجماهيري وسط الأنصار.
أُحيل هنا إلى كتاب مهم أصدره «مركز المسبار للدراسات والأبحاث» في دبي، يدرس الكتاب الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الذي نتج عنه تمدد حركة «طالبان» ودخولها إلى العاصمة الأفغانية كابل، ويعالج ثوران الأسئلة حول جدوى الحرب على الإرهاب، وقيمها، ويقيّد محاولات تقييم الاستراتيجية الأميركية في مكافحته، فيرصد محاولة المتفائلين المنافحة عنها بتفهّم إعادة ترتيب سُلّم الأخطار؛ والتهوين من الإرهاب فيه، بينما تواطأ المتشائمون على اتهامها بالفشل الفكري، وتأكيد أنّ المفاهيم الخاطئة، والأسئلة المضللة، أدت إلى الأفعال الناقصة والاستراتيجية الغامضة التي أورثت المنطقة حصاداً مراً، وساهمت في نشوء تطرفات متعددة الاستخدامات.
في الكتاب تناول عبد الجليل سليمان، باحث سوداني في الشؤون السياسية، في دراسته التدخل الأميركي في أفغانستان، ثم وقف على التناقضات والأخطاء، والعوامل المؤدية إلى الانسحاب، مشيراً إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن ورث وضعاً هشّاً للغاية في هذا الصدد، فمنْ الناحية الاستراتيجية، ومع اقتراب موعد الانسحاب النهائي المُحدّد سلفاً، وعدم التزام حركة «طالبان» باتفاق فبراير (شباط) 2020، في وقتٍ أصبح فيه عدد القوات الأميركية على الأرض الأفغانية غير كافٍ لعرقلة أي تقدُم مُحتمل لها نحو العاصمة كابل، وجدت إدارة بايدن نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما استكمال الانسحاب، وإما التصعيد مع الحركة وشن الحرب عليها، مما يترتب عليه بالضرورة، إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان.
يخلص الباحث إلى أن الرهان على الالتزام الأخلاقي بالاتفاقية من حركة «طالبان» المُثقلة بالفكر الانعزالي والمؤمنة بعقيدة الولاء والبراء، والقائمة على الولاءات الاجتماعية (القبليّة) والدينية، كأنه محاولة لتبرير الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والتنصل من الاعتراف بفشل استراتيجية مكافحة الإرهاب، مما يجعل إمكانية إعادة النظر فيها وترتيبها بشكلٍ مُختلف في المهمة القادمة التي يُتوقع أن تكون ساحتها أفريقيا، أمراً عسيراً. وعليه فإنّ إمكانية ارتكاب وتكرار الأخطاء نفسها تظل قائمة وواردة بقوة.
يرى الباحث أن تحقيق الاستقرار في أفغانستان لا يمكن أن يتأتى بترك البلاد رهينة حركة متطرفة ومعزولة إقليمياً ودولياً، بل من خلال دعم الديمقراطية في البلاد، وإرساء أسس نظام يستمد شرعيته من إرادة الأفغانيين أنفسهم، بعيداً عن الأجندات الدولية والإقليمية، والمساهمة في تضييق الخناق على الجماعات الإرهابية، وتعزيز مشاريع التنمية القادرة على إعادة الأمل للمواطنين في هذا البلد.
يخلص لكريني إلى أن أفغانستان تظل في الظرف الراهن بحاجة ماسة إلى مساعٍ حميدة ومبادرات ودية، تدعم إرساء حوار داخلي في إطار من الثقة، يوفر مناخ المصالحة الشاملة بين مختلف الفصائل، وبناء دولة مدنية ديمقراطية تحتمل كل الفرقاء في البلاد بمؤسسات دستورية قوية، والانكباب على تحقيق التنمية الإنسانية بما يعيد الأمل إلى الشعب الأفغاني، ويَحول دون تنامي الهجرة وطلب اللجوء، كما لا تخفى أهمية انخراط القوى الدولية والإقليمية في تقديم المساعدات المختلفة لإعادة إعمار البلاد.
يشير نور الهدا فرزام، كاتب وباحث أفغاني في الدراسات الإسلامية، إلى أنه خلال فترة حكم حركة «طالبان» ظهرت صدامات كثيرة بينها وبين الشعب الأفغاني، خصوصاً في المدن الكبرى مثل كابل وهرات وبلخ، لأن معظم عناصرها كانوا من الأرياف والقرى، ولم يكونوا على معرفة بالثقافة المدنية، وأرادوا تطبيق ثقافة الريف على المدن تحت اسم الشريعة. كانت الصدامات واسعة النطاق، عمّت جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ إلا أن موضوع المرأة في ظل حكم الحركة كان من أكثر الموضوعات أهمية أمام الباحثين، يسلط الباحث الضوء عليها في ثلاثة اتجاهات: الأول، نوعية فقههم عن الشريعة. الثاني، نظرتهم للمرأة بعيداً عن الفهم الديني. الثالث، رؤيتهم السياسية والاجتماعية.
الخلاصة؛ أن الدرس الأفغاني جد خطير، وآثار الانسحاب الأميركي رغم مرور سنواتٍ على حدوثه لن تنعكس على المجتمع الأفغاني فحسب، وإنما له تمدده على مستوى العالم، فالبيئة الحاضنة للإرهاب تتسع من أفغانستان إلى الحدود الباكستانية وفضاءاتها القبلية والتنظيمية، وربما تحمل الأيام الكثير من المفاجآت الكارثية، فالإرهاب يستفيد من كل لحظة ضعف من أجل تقوية بنيته.