لم يكن غريباً أن يقع انقلاب في النيجر، فالمؤشرات كلها كانت تبشر به: بلد لا منفذ له على البحر، وسكانه يزدادون بسرعة، وعجز متفاقم في استثمار الموارد الطبيعية، وفشل في تنمية الموارد البشرية، وفوق كل ذلك تدخلات خارجية لا تتوقف. هذا جعل الديمقراطية في النيجر بلا معنى، لأن الطبقة السياسية المنتخبة بالذات عجزت عن تحقيق أولويات الناس، فانصرفت طواعية أو مرغمة لتلبية رغبات الخارج أملاً في البقاء. هذا يفسر ردة الفعل القوية من الخارج ضد الانقلاب، وبالذات من فرنسا التي لها مصالح كبرى. وكالعادة كرر قادة الانقلاب في النيجر البيان رقم 1 المتضمن استرجاع السيادة، ووقف الفساد، وإعطاء الشعب حق اختيار ممثليه بعد استعادة الاستقرار. بالطبع عبارة «الاستقرار» هي لازمة للاستمرار الدائم في السلطة، لأن العدو دائماً يتربص بالبلد، وبهذا المنطق تبقى السلطة بيد الانقلابيين إلى أن يُطاحوا.
طبعاً توجد قوى خارجية تريد الهيمنة على موارد النيجر والموقع الاستراتيجي، وأهمها فرنسا المستعمر القديم والمهيمن الآن على أكبر منجمين لليورانيوم الحيوي للمفاعلات النووية بفرنسا؛ لذلك حذرت في بيانها من التعرض لمواطنيها ومصالحها والاتفاقيات الموقعة مع النيجر، وهذا رسالة واضحة للانقلابيين بما ينتظرهم إن هددوها. كذلك حذرت الولايات المتحدة الانقلابيين، لأنها هي الأخرى لديها أكبر قاعدتين عسكريتين للطائرات من دون طيار تستخدمهما لمقاتلة الجهاديين من «القاعدة» و«داعش» وغيرهما؛ وأيضاً للاتحاد الأوروبي مصالح تكمن في حماية أمنه من خطر الهجرة، ووصول جهاديين إسلاميين إلى أراضيه. ومقابل مصالح الغرب في هذا البلد المنكوب تبرز مصالح روسيا والصين. فالرئيس بوتين، رغم تصريح أميركا بأن ليس لروسيا يد في الانقلاب، أكد أنه مستعد لمساعدة النيجر في التخلص من «الاستعمار القديم والحديث». وكما ساعد بوتين رئيس مالي عبر قوات «فاغنر»، كذلك مستعد لمساعدة زعيم الانقلابيين في بوركينا فاسو الذي ناشده الصمود في وجه تهديدات الغرب. أما الصين الوافد الصامت لأفريقيا، فإنها تحاول الوقوف كالعادة في الوسط للحصول على أكبر عائد اقتصادي؛ سياستها هذه مكنتها من كسب الود في القارة، من خلال إنفاقها الأموال على استثمارات تنتهي باتفاقيات تحمل في نهاياتها نتائج استعمارية.
هذا التنافس على النيجر يعني أن ليس سهلاً التخلص من الانقلابيين بالقوة، كما هدَّدت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا إذا لم يُعَد الرئيس النيجري محمد مازوم للسلطة. فالمجموعة هذه غير متفقة بعدما أعلنت مالي وغينيا وبوركينا فاسو (الأعضاء فيها) أن أي تدخل بالقوة سيعدّ إعلان حربٍ، وسيقاتلونه إلى جانب الانقلابيين، وذلك لإدراكهم أن إفشال الانقلاب سيؤدي لاحقاً إلى إسقاط حكمهم. ولعل معرفة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بذلك، وإدراكها العناصر الخارجية، أجبرها على التراجع وإرسال وفد يمثلها للتفاوض. ففرنسا وأميركا، والمجموعة الاقتصادية تدرك أن أي مواجهة عسكرية مع الانقلابيين ستكون كارثة إنسانية فادحة على بلد فقير يواجه تهديداً من جهاديين إسلاميين يزدادون قوة، رغم الدعم الغربي المالي والعسكري لشريط أفريقي طويل يمتد من غينيا (غرب) إلى السودان (شرق). وباستبعاد الخيار العسكري فإنه ليس سهلاً التخلص من الانقلابيين، وبالتالي فإنَّ الخيارات الأخرى الأقل خطورة تتمثل بالعقوبات الاقتصادية والمالية، وربما لن تكون كافية، لأن تاريخ العقوبات يثبت ذلك. لهذا فالمرجح أن يعمد الغرب إلى سياسة الاستقطاب لإدراكه، حسب التقارير، أن الانقلاب يعود إلى خلاف شخصي بين الرئيس محمد مازوم ورئيس الانقلاب الجنرال عبد الرحمن اتياني، الذي تقول تقارير إنه شعر بأن الرئيس سيعزله من منصبه كرئيس للحرس الوطني؛ ولما كان الخلاف بعيداً عن الآيديولوجية فليس عسيراً إيجاد معادلة توزيع جديد للكعكة ترضي الجميع وبشعار استعادة الديمقراطية (المزيفة).
هذا الحل، مع أهميته، لا يحل أبداً مشكلة النيجر؛ إنما سيفاقمها، وسيجرّ في المستقبل انقلاباً آخر. لأن الحل الغربي لكل أزمة في أفريقيا يركز دائماً على تطبيق الديمقراطية، ثم فتح الباب واسعاً أمام جشع الشركات الغربية، وتركيز الاستثمار على الموارد الطبيعية التي يحتاجها الغرب. هذا النمط من الديمقراطية والاقتصاد أسهم كثيراً في تعزيز منظومة الفساد ثم في تنميط الاقتصاد المحلي ليعمل لمصلحة الاقتصاد الخارجي الصناعي، والتجاهل التام لعملية التنمية الحقيقية، مما خلق تذمراً، وتفاوتاً كبيراً بين الأغنياء والفقراء، وجعل النيجر محل تنافس وصراع داخلي على السلطة للاستئثار بحصة الأسد، وصراع بين دول خارجية تريد أن تربط المتنافسين الداخليين بها، وتستفيد عبرهم من الموارد والموقع الاستراتيجي.
هذا الواقع الأليم سيستمر ولن يتوقف إلا بخروج النيجر من هذه الحلقة المفرغة من خلال مراجعة عقلانية وأخلاقية لسياسات الغرب في القارة الأفريقية. ولعل أول عنصر في هذه المراجعة، وكأولوية، يجب ألا يتعامل الغرب مع الأزمات في أفريقيا على أنها مشاكل إنسانية بحتة يمكن معالجتها فقط بالمساعدات، ودعم منظمات المجتمع المدني، والمناداة بنشر الديمقراطية. هذه المناداة لم تزد الوضع في النيجر، وبلدان أخرى بأفريقيا، إلا تكلساً وربطت نخب البلاد أكثر بمصالح الخارج. ولكي يتجاوز الغرب مشكلة الانقلاب في النيجر، فإن أسلم الطرق؛ مصالحة بين الأطراف المتصارعة، والتزام حقيقي بتحسين واقع الناس، وتطوير الموارد، وتركيز الاستثمار ليكون في خدمة الاقتصاد المحلي، واشتراط إنفاق عائداته في التنمية البشرية، والبنية التحتية، وبناء اقتصاد بعيداً عن مفهوم الريعية.
أمام الغرب ثلاثة حلول: عقد صفقة مع الانقلابيين وإرضاء الجميع على حساب النيجر، أو استخدام القوة فتكون النتيجة كارثية على النيجر، أو السعي نحو ديمقراطية حقيقية لا يتغذى فيها العسكر أو الشركات الأجنبية على أقوات شعب النيجر البائس.