نودِّع عام 2024 الذي تراكمت في معظم أيامه الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة وعلى الشعب اللبناني الذي شمل العدوان عليه مدناً وبلدات من أقصى جنوبه المحادد لإسرائيل إلى أعماق سهوله شرقاً وغرباً ووسطاً، ثم على مناطق في سوريا عكَّرت الاعتداءات صفو حال شعبه على خلفية تغيير لبلاد الشام تتواصل الصياغة الجديدة له. لعلنا مع بداية إدارة أميركية جديدة تصحح الكم الهائل من جانب إدارتها المنتهية، فلم تتخذ الموقف الذي يحصن الإنسانية من اعتداءات إسرائيل وإلى درجة أن كفة ميزان الفعل الذي اقترفته حكومة بنيامين نتنياهو استمرت الراجحة، كما أنها في السياق نفسه تناست قرارات ووعوداً وتصريحاتٍ أدلى بها رؤساء سابقون في شأن أهمية أن تكون هنالك دولة فلسطينية، وهو مطلب بات بمثابة قرار اتخذته القمم العربية كلها والعمل على تحقيق استقلال فلسطين وتشكيل حكومة تضمن فيها حقوق جميع سكانها الشرعيين من دون تفريق.
وعند التأمل في مضامين سائر قرارات القمم العربية والإسلامية وأحدثها قمم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التي استضافتْها المملكة العربية السعودية، وكذلك التصريحات الموجهة في الدرجة الأولى إلى الغرب الأميركي - الأوروبي حاضن إسرائيل، يرى أن منطلقات القرارات والمواقف ذات مرجعية ثابتة هي ما بدأه السلَف وتتمسك به أجيال الخلف، حيث إن صيغة الدولتيْن حلاً للمعضلة التي بلغت مرحلة الشيخوخة، كانت الحل الواقعي الذي كان مأمولاً. بل من الجائز القول إن الصيغة هي مسح الغبار المتراكم على سمعة التعامل الغربي غير الواقعي مع القضية التي هي الأطول عمراً بين القضايا المعلَّق التفاهم على حلول منصفة لها. وعندما تتمسك دول الأمتيْن وقياداتها جيلاً بعد جيل بالصيغة، فإنها بذلك تبدي حُسن النية وبما يغني العهود المتتالية في دول الغرب الأميركي - الأوروبي عن اجتراح الحل الذي يُبقي إسرائيل واحدة من دول المنطقة لا تمتهن حكوماتها عموماً العدوان تلو العدوان. ولعله الطلب العربي - الإسلامي الوحيد الذي تأمل الأمتان من الغرب الصديق التجاوب معه فلا يستمر هذا التسويف المبغوض. لكن الذي يحدُث منذ الإجماع على صيغة الدولتيْن حلاً وإن تنوعَ التعبير عن ذلك، أن دول الغرب دائمة الطلب والتطلب من العرب ولا أخذاً في الاعتبار ربما يأملونه من صديقهم الأميركي والبريطاني والفرنسي وسائر شعوب القارتيْن وهو: فلتصبح الدولة الفلسطينية حقيقة، وتُطوى صفحات العداوة والكراهية ولا يعود العدوان والإبادة والتدمير من بين الكوابيس المستمرة.
في المقابل، يغمرنا كوننا عرباً الاعتزاز بالنفس ونحن نواكب الفعل الطيِّب المتمثل بخطوات تجاه الجميلة لغة الضاد التي كان والدور الذي يؤديه «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» الذي اختتم مؤتمره الدولي السنوي الثالث في الرياض الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2024 والذي كان تحت عنوان «حوسبة اللغة العربية وإثراء البيانات اللغوية» وبمشاركة 40 متحدثاً يمثلون 22 دولة جُلّهم من ذوي الاهتمام والتخصص في اللغة العربية واللغويات الحاسوبية وعلوم الحاسوب. وأهمية هذا المجمع هي في راعيه الذي يضع اللغة العربية تأخذ مكانها في المجالات التي بلغ الذكاء الاصطناعي مداه. وهنا تجدر الإشارة بشكل خاص إلى خطوات نوعية في مجال الحوسبة اللغوية وكيف بات مؤشر «بلسم» لتقييم تقنيات الذكاء الاصطناعي للغة العربية إلى جانب منصة «فلك» التي تجمع إحدى عشرة مدونة لغوية. وهذه إنجازات وخطوات تجيب عن التساؤل حول رسالة «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» ومن مضامين هذه الرسالة إسداء خدمة لهذه اللغة والحفاظ على سلامتها نطقاً وكتابة، وخصوصاً بعدما نشأت أجيال عربية من الجنسين لا يرون في لغة الضاد ما كان يراه السلف الصالح جيل عدم المس بما يعطي الرونق والبهاء للضاد؛ ذلك أن الهمزة ضرورية والضمة والفتحة والكسرة كذلك، وأن تهجير هذه المجمَّلات عن الكلمة بغرض التخفيف من الأثقال هو بمثابة النيل من مسحة جمال مكتملة للضاد التي لطالما تتباهى بأنها لفظاً وتشكيلاً تبعث البهجة في النفوس، وخصوصاً عندما تصدح حناجر قارئي المصحف عند المغرب ولحظة تباشير الفجر، وهي بهجة ما كانت لتحدث إذا جاءت كلمات الآيات خالية من ضماتها وكسراتها وفتحاتها.
هنا يأتي أيضاً إنجاز بالغ الأهمية بالنسبة إلى أجيال عربية حديثة شاءت الظروف أن يغلب النطق الأجنبي لبعض الكلمات لدى هؤلاء وقد باتوا لا من يرشد ويهدي إلى حُسن نطق الكلمات. ويتمثل هذا الإنجاز بالقناة التعليمية التي أطلقها «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» وتستهدف في الدرجة الأولى أبناء عرب هاجروا لبضع سنوات أو طالت هجرتهم أو حتى أبناء عرب عادوا إلى أوطانهم مع ذويهم. وهؤلاء في معظمهم، ولا يلامون على ذلك، باتوا ينطقون اللغة العربية بلكنات مختلفة وأحياناً بمزيج من لغتهم الأم ولغات اكتسبوها في ديار اغترابهم. ولقد عشنا أي معاناة عاشها أبناء وبنات كانوا جزءاً من اغتراب أهاليهم وباتوا في معظم العواصم الأميركية والأوروبية ينطقون العربية بلكنة تأخذ من مهابة هذه اللغة. وها هم في ضوء هذا السعي المبذول والمتطور من جانب قناة «العربية للعالم - للأطفال» التي أطلقها «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» في الأسبوع الأخير من بداية عام 2024 للأطفال على طريق التصحيح المتدرج الذي يكتسب إلى جانب أهمية النطق بالذات شعور هذا الفتى العربي أو تلك الفتاة العربية بأن اللغة وفق الأصول هي التي تبلور اعتزازهم بالضاد الجميلة.