قبل ست سنوات، وحين تولى (ترمب) رئاسة أميركا، سعى إلى تنشيط اقتصاد الولايات المتحدة من خلال خفض الضرائب على الشركات لتعود للأراضي الأميركية، وكذلك من خلال استهداف الاقتصاد الصيني بشكل صريح، برفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية. وحين جاء الرئيس (بايدن)، استمرت السياسة نفسها، ولكن بأدوات مختلفة، فأطلق أنظمة منها (قانون خفض التضخم) و(قانون الرقائق الإلكترونية) للنهوض بالصناعات الأميركية على الطريقة الكلاسيكية، وذلك بالدعم الحكومي المباشر للصناعات المحلية. أما من ناحية الصين، فقد انتهج (بايدن) أسلوب تشكيل التحالفات لمحاصرة الصين، سواء كانت هذه التحالفات من الدول الغربية، ومن الدول الآسيوية الحليفة لأميركا.
والاختلاف بين (ترمب) و(بايدن) في محاولات الارتقاء بالاقتصاد الأميركي مقابل الصيني هو مجرد اختلاف في لغة الخطاب مع تشابه المغزى. فالأول صرح أن هدفه هو الارتقاء بمكانة الولايات المتحدة دون النظر إلى غيرها، بينما حاول الثاني إقناع حلفائه أن أسلوبه من مصلحة العالم، لا سيما بمحاولات «شيطنة» الصين بأساليب منها أن نظامها لا يتوافق مع القيم الديمقراطية، وأن توجه الصين السياسي يهدد الغرب. ولكن التشابه بين الرئيس الحالي والسابق واضح، فـ(ترمب) فرض الرسوم الجمركية على دول الاتحاد الأوروبي تماما كما فرضها على الصين، و(بايدن) حاول جذب الشركات والمصانع من جميع الدول (أوروبية أو غيرها) باستخدام قانون خفض التضخم. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة ما زالت تظهر أن مصلحة الاتحاد الأوروبي تكمن بالابتعاد عن الصين، أو بما يسمى بـ(الانفصال الاقتصادي) عن الصين.
ولكن يبدو أن الاتحاد الأوروبي لا يتوافق مع الولايات المتحدة بهذا الانفصال، اتضح ذلك من زيارة المستشار الألماني (أولاف شولتس) إلى الصين في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، التي صرح قبلها باعتراضه على الانفصال الاقتصادي عن الصين، وحاول في زيارته توسيع التعاون الاقتصادي بين ألمانيا والصين. ولم يبتعد الرئيس الفرنسي (ماكرون) كثيرا عن توجه نظيره الألماني، ففي زيارته الأسبوع الماضي للصين اصطحب معه عشرات رجال الأعمال الفرنسيين في محاولة لزيادة الاستثمارات بين البلدين، ودعا الأوروبيين خلال الزيارة إلى «الاستيقاظ» وعدم التبعية خلف الولايات المتحدة في سياستها تجاه الصين، معتبرا أن الاتحاد الأوروبي بإمكانه أن يصبح قطبا ثالثا لا تبعا لأحد الأقطاب. وكان بصحبة (ماكرون) رئيسة المفوضية الأوروبية (أورسولا فون دير لاين) التي صرحت أن الفصل الكامل بين أوروبا والصين غير مرغوب فيه وليس من مصلحة الدول الأوروبية. الانفصال الاقتصادي بين الشرق والغرب أشبع نقاشا خلال العقد الأخير، وزاد التركيز عليه منذ تولي (ترمب) الرئاسة، وخلصت الدراسات فيه إلى أنه مستحيل على المدى القصير وشبه مستحيل على المدى الطويل. فالقدرة التصنيعية في الصين التي يصاحبها انخفاض نسبي في تكلفة الإنتاج تصعّب المنافسة على الدول الغربية. ومهما حاول الغرب دعم الدول الآسيوية الأخرى لتكون منافسة للصين، فإنه لن يستطيع الارتقاء بهذه الدول لمكانة الصين من ناحية البنية التحتية التي استثمرت فيها الصين لعقود، ولا من ناحية مستوى التعليم المرتفع لدى الشعب الصيني. ولو حاول ذلك فلن يستطيع تمويل هذه المشاريع لا سيما أنه يمر بأزمات اقتصادية طاحنة، والدول الآسيوية نفسها لن تستطيع تمويل مشاريع تحولية تمكنها من منافسة الصين.
أما الحرب الروسية الأوكرانية، التي دعمت مبدأ عدم الاعتماد على مصدر واحد في الطاقة أو في سلاسل التوريد، فقد صعّبت المنافسة على الصناعات الأوروبية برفع تكلفة الطاقة، بينما لم تعان الصين من ارتفاع أسعار الطاقة. وهو ما زاد من جاذبية الانتقال إلى الصين لكثير من الشركات الأوروبية لا سيما الألمانية منها التي عانت من انقطاع الغاز الروسي.
إن ما تحاول الولايات المتحدة فعله منذ عدة سنوات هو إضعاف الصين مهما كانت العواقب على غيرها من الدول، فاقتصادها القوي وارتفاع المستوى المعيشي لشعبها يمكنها من تحمل ارتفاع أسعار السلع الناتج عن الانفصال عن الصين، أو الابتعاد عنها على أقل تقدير. ولكنها تحاول أيضا سحب غيرها من الدول في هذا التوجه، وخلق استراتيجيات جديدة منها تحويل الصناعات نحو (الدول الصديقة) كما سمتها، مثل الهند وبولندا والمكسيك. وهي بذلك تريد الإبقاء على تفوقها الاقتصادي فقط، دون الالتفات إلى مصلحة بقية الدول، التي سيتضرر بعضها بكل تأكيد من هذا الفصل، سواء من حلفاء الولايات المتحدة ومن غيرهم.
8:2 دقيقه
TT
الخلاف الأميركي ـ الأوروبي تجاه الصين
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة