مرّ قرابة قرن منذ أن تمكن «تي إي لورانس» و«الثورة العربية» من طرد العثمانيين من سوريا. اليوم، يعود الأتراك مجددًا، لكن هذه المرة في ظل دعم جوي أميركي، وفي إطار خطة لبناء منطقة عازلة على امتداد 60 ميلاً على الجانب السوري من الحدود بين الدولتين.
وإذا كان البعض يرى في إقامة دولة جديدة مصغرة داخل حدود دولة شرق أوسطية أمرًا مثيرًا للقلق، فهذا رأي صائب تمامًا. وقد تعلم الإسرائيليون من محنتهم داخل لبنان في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، فإن مثل هذه المناطق الأمنية شبه الدائمة تفرض تكاليف باهظة للإبقاء عليها، وتسفر عن تداعيات غريبة - مثلما حدث في لبنان بظهور «حزب الله».
ومع ذلك، ورغم ما تبدو عليه الفكرة من جنون، فإنها قد تكون أفضل من البدائل الأخرى المتاحة، لأنها قد تشكل خطوة أولى نحو الدفع بقوات برية قادرة على هزيمة «داعش».
منذ أن بدأ انهيار سوريا، ركزت الحكومة التركية اهتمامها على هدفين متعارضين: أولهما: إضعاف الرئيس السوري بشار الأسد تمهيدًا لهزيمته نهاية الأمر، مما دفعها لدعم ميليشيات «الجيش السوري الحر». ثانيًا: دفع الميليشيات الكردية السورية إلى الوراء، والتي شاركت في القتال ضد الأسد واستفادت من الفراغ الناشئ عن ذلك في توسيع نطاق الأراضي الواقعة تحت سيطرتها. من جهتها، تخشى تركيا، بل وتمقت صعود المشاعر الكردية الوطنية بالمنطقة، نظرًا لتعاطف الأكراد في العراق وسوريا مع حزب العمال الكردستاني، وهو ميليشيا تسعى للسيطرة على المناطق التركية التي تنتمي غالبية السكان بها إلى الأكراد.
وتخدم مسألة إقامة منطقة عازلة داخل سوريا، مدعومة بقوة جوية أميركية، هذين الهدفين. وحال تنفيذ ذلك على النحو الصحيح، فإنه سيلحق الضعف بالسيادة السورية عبر إقامة جزء من تركيا داخل سوريا. كما أنه سيمنح القوات التركية منطقة يمكنها خلالها دفع الميليشيات الكردية بدرجة أكبر نحو الشرق.
حتى الآن، لم يبد الأتراك استعدادهم لدخول الأراضي السورية والبقاء هناك - وذلك لأسباب منها أن ذلك من شأنه توريطهم في قتال مباشر ضد «داعش». بيد أن هذا الوضع تبدل في أعقاب الهجوم الانتحاري الذي وقع الأسبوع الماضي ضد متطوعين أكراد في تركيا، والذين كانوا في طريقهم نحو الحدود لقتال «داعش». ويتمثل العامل الآخر في كل ذلك في الولايات المتحدة، والتي شعرت بالرعب حتى وقت قريب حيال فكرة اقتطاع تركيا جزءًا من الأراضي السورية، ناهيك بالعمل على تيسير ذلك بتوفير دعم جوي. وقد أصيبت استراتيجية الرئيس باراك أوباما تجاه سوريا (إن صح استخدام لفظ استراتيجية هنا) بلعنة الحيرة العميقة حيال مصير الأسد. ولم ينجح مرور الوقت في القضاء على حالة التردد التي تذكرنا بهاملت، ولا في طرح إجابة للتساؤل: هل ينبغي أن يبقى نظام الأسد أم لا؟
ومع ذلك، تواجه واشنطن حاجة ملحة تستلزم إقامة المنطقة العازلة لرغبتها في تحقيق أية مكاسب في مواجهة «داعش». ويتمثل السبيل الوحيد نحو تحقيق ذلك في الاستعانة بقوات برية محلية.
والقوات التركية فستكون أمرًا مختلفًا تمامًا. من المنظور الأميركي، دفع الأتراك نحو قتال «داعش» تطور جيد - بل وتطور كبير في العملية البطيئة الخاصة ببناء تحالف فاعل.
لذا، فإنه من المنطقي بالنسبة للولايات المتحدة أن تدعم المناطق العازلة، رغم المخاطر. المؤكد أن هذه المخاطر خطيرة بالفعل، ذلك أنه من الممكن أن تخضع تلك المناطق لإدارة ميليشيات سورية على صلة بمتطرفين معادين لواشنطن. وفي الوقت ذاته، فإنها قد تشكل خطوة أولى نحو إسقاط بشار، كما أنها قد تمثل خطوة نحو تفكيك سوريا، الأمر الذي قد يتسبب في مزيد من زعزعة الاستقرار بالمنطقة. إلا أن وجود دويلة صغيرة لقي «داعش» الهزيمة فيها، سيمثل انتصارًا في مواجهة الجماعة. وهنا، تستجدي واشنطن لكسب حلفاء ضد «داعش»، ولا تملك رفاهية الاختيار.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT
حليف مثير للقلق لكن ضروري ضد «داعش»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة