مالك القعقور
TT

بداية نهاية «العجاف»

صدر من الناقورة، البلدة الصغيرة في أقصى جنوب لبنان، في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، «دخان أبيض» يعلن بداية نهاية السنوات العجاف التي يعاني منها اللبنانيون ووطنهم الصغير. الدخان الأبيض، تمثل بمستندين وقّعهما، كل على حدة وفي بلده، الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد، وسلماهما إلى الأمم المتحدة عبر وفدين شكلاهما لهذه الغاية، وبحضور الوسيط الأميركي آموس هوكستاين.
الدقائق العشر التي استغرقها اللقاء في الناقورة، حيث تتخذ قيادة القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان مقراً لها، توجت مسيرة عشر سنوات من المفاوضات غير المباشرة بين البلدين العدوين منذ 1948، تاريخ نشوء إسرائيل وبدء «النكبة» - القضية الفلسطينية التي لا قضية سواها في المنطقة، حول ترسيم الحدود البحرية بعدما اكتشفت كميات هائلة من الغاز في البحر المتوسط وعلى امتداد سواحله. وتلك الاكتشافات دفعت إسرائيل إلى تبديل خططها والذهاب فعلاً باتجاه «السلام»، بعد عقود وعقود من الكذب والخداع والنكس بالعهود والوعود، من أجل أن تكسب عشرات المليارات من الدولارات الكامنة في أعماق البحر.
قبل عشر سنوات عندما بدأت مفاوضات الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، كان لها هدف وحيد هو أن يودع لبنان لدى الأمم المتحدة إقراراً بالحدود، لأن هذا الإقرار ضروري جداً للشركات التي ستستثمر مليارات الدولارات في تطوير الحقول، وليست مستعدة أن تأتي إلى منطقة فيها نزاع، عملاً بالقاعدة القائلة إن «رأس المال جبان».
وحينها، قبل 10 سنوات، أخرجت أوروبا، وربما أميركا وإسرائيل معها، الخطة الثالثة لمد أنبوب غاز إلى أوروبا من شرق المتوسط، بعدما أفشلت روسيا الخطتين الأوليين (خط ناباكو 2008، والخط القطري 2011)، إذ تمكنت فيما يتعلق بالخط الأول من منع مد خط من كازاخستان إلى أوروبا عبر بحر قزوين، من خلال حكم من محكمة العدل الدولية يقضي بمنع تفرد دولة باستخدام البحر المقفل من دون موافقة كل الدول المشاطئة عليه، فيما منعت الخط الثاني الذي كان سيعبر سوريا بدخولها إليها بعدما كانت أوعزت إلى حليفها الإيراني بأن يسبقه إليها، وساهما معاً في تدميرها بحجة «منع سقوط» حلفيهما الأبدي النظام السوري الذي بناه حافظ الأسد وورثه إلى نجله بشار الأسد.
وقبل 10 سنوات أيضاً، شعرت إسرائيل بأنها الأقوى بعدما فعل «الربيع العربي» فعلته في معظم الدول المحيطة بها، ولاقاها نظام الملالي في طهران بالمنهج التدميري ذاته، فعبث بأمن العراق واليمن وسوريا ولبنان وحاول مد يده إلى غيرها من الدول العربية، كما دأب منذ أن وضع يده على النظام في إيران عام 1979، مدعياً «الموت لإسرائيل»، وأنه قادر على تدميرها في سبع دقائق ونصف الدقيقة، وهذه الدقائق لن تأتي أبداً...
عندما بدأت مفاوضات الحدود البحرية مع لبنان كانت تجرى على نار هادئة. وكانت إسرائيل عندها تعمل في تجهيز بناها التحتية نفطياً وغازياً، فيما لبنان على حاله غارق في الفساد والمماحكات الطائفية، وجعجعة كثيرة وكلام بالجملة على الشاشات لا يسمن ولا يغني من جوع. لكن عندما أصبحت إسرائيل جاهزة، اختلف التعامل مع لبنان وبدأ الضغط عليه بطرق شتى، وراح يزداد شيئاً فشيئاً ليبدأ ببلوغ مستويات عليا بدءاً من 2018 حتى وصل لبنان إلى حضيض ما بعده حضيض في الأشهر الأخيرة وعلى كل الصعد، سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً ومالياً وصحياً و.....
وعندما فُتِحْت «خاصرة» لروسيا في أوكرانيا، ولاح لأوروبا «نصر» في «حرب الغاز» بالحصول على خط آخر غير الخط الروسي، ضغط الأميركي أكثر في مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل. هنا حاول الإيراني، وربما بإيعاز من الروسي، أن يلعب مع إسرائيل وأميركا لعبة «المسيرات»، فأطلق «حزب الله»، أداته العسكرية في لبنان، ثلاثاً منها فوق حقل «كاريش» النفطي، زاعماً أنه يقف خلف الدولة اللبنانية ويدعم موقفها وحقها. وجاءه الرد سريعاً ومن حيث لم يكن يتوقع، عبر حادثة بسيطة مع فتاة تدعى مهسا أميني، فألهبت الداخل الإيراني عن بكرة أبيه، ما دفع نظام الملالي إلى الرضوخ وتقديم «القرابين» بسرعة البرق في اثنين من أبرز ميادينه التي أتقن فنون شلها وتعطيلها: انتخابات رئاسية وتشكيل حكومة في العراق، وتوقيع اتفاق ترسيم الحدود في لبنان... وتكاد تكون من المرات النادرة التي يستفيد لبنان منها من تقاطع مصالح الدول الكبرى، وكذلك تقاطعت مع نهاية عهد عون الذي وسم عهده بسمة «الممانعة» وكبّد لبنان كثيراً من علاقاته العربية والدولية... صحيح أن لبنان ذاهب غداً إلى فراغ رئاسي و«نزاع دستوري»، إلا أن الصحيح أيضاً أن أسباب بؤسه زالت في أسبوع واحد وكثير من أموره ستلقى علاجاً..... وغداً لناظره قريب.