د. عبد الجليل الساعدي
TT

كاسرة وقلوبها مرهفة

خطر ببالي وأنا أستمعُ صدفةً إلى أخبار هذا العالم الثالث بيت الضليل:
كأنّ قلوبَ الطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العنابُ والحشفُ البالي
لكنني تذكرت في الآن نفسه بيت أبي البقاء الرندي:
لـِمثلِ هـذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ
إنْ كانَ فـي القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
وطافَ بأفقي بيتٌ لشاعر الرومانسية الإنجليزي الغابر ويليام وورثسوورت في قصيدته «قوس قزح»:
قلبي يقفز.. حين ألمح قوسَ قزح.. في السماء..
وأبيات لكريستينا روسيتّي مطلعها:
قلبي طيرٌ مغردٌ..
تداعت قضايا القلب في قلبي حتى تذكرت بيتَ عمرو بن حزام الرائع:
لقد تركتْ عفراءُ قلبي كأنه
جناحُ عقـابٍ دائم الخفقانِ
وبيت الحلاج:
قُلوبُ العاشِقينَ لَها عُيونٌ
تَرى ما لا يَراهُ الناظِرونا

تذكَّرتُ هذا الطيرَ الجارح.. العقابَ الكاسر، الذي تعفُّ نفسه عن أكل قلوب الطيور الرهيفة اللينة. فهو يأكل لحمَها ويترك قلوبها. إنَّها العاطفة التي أُلهمها هذا الطائر، فلا تجرؤ نفسُه على الإقدام، وهو القادر الكاسر، على التهام القلوب، بل إنَّ صغيره الهيثم، أُلهم هو الآخر هذا السلوك.
مهما يكن المبرر، ومهما تكن العداوة، ومهما تكن درجةُ الغضب، فهذا فعل لا يمكن أن يتصورَه عقلٌ، أن يقضمَ إنسانٌ قلبَ آخر.
لمْ أكنْ أعلمُ قبل معرفة بيتِ الضلِّيل، أنَّ العقاب لا تأكل قلوبَ الطيور. لقد انسقنا وراء النحو كثيراً، من دون التركيز على المعنى مع أنَّ علماء النحو كانوا يقولون دائماً: «إنَّ الإعراب فرع المعنى».
ثمة علماء أفذاذ ركزوا على جوانب معينة أكثرها لغوية، مما أدَّى بهم إلى هفوات وهنات. ساقتهم إلى إهمال المنطق في تناول هذا التراث، وأهملوا جوانب أخرى.
لكن ما يثير الريبة في هذا التناول، أنَّ علماء أفذاذاً آخرين ممن أتوا بعدهم تناولوا الموضوع نفسَه، وساقوا التخمينات نفسَها من دون زيادة أو نقصان إلا نفر منهم.

كنت أظنُّ أنّني قد اكتشفت جديداً في بيت الضلّيل بمعرفة أنَّ العقاب لا تأكل قلوب الطير، إلى أن قرأت أبا حيان التوحيدي، وعلمت أنَّه انتبه إلى ذلك، وقال إنها «تأكل الحيات إلا رؤوسها، والطيور إلا قلوبها»، ويورد في هذا بيت امرئ القيس المشار إليه، ويورد أيضاً بيت طرفة المقلد لامرئ القيس:
كأنَّ قلوب الطير في قعر عشها
نوى القسب مُلقًى عند بعض الموائد
كما التفت إلى ذلك الدميري في مؤلفه الرائع «حياة الحيوان الكبرى».
لهاثُ بعض علماء اللغة وراءَ التشبيهين اللذين جمعهما امرؤ القيس في بيت واحد، وبذل بعض هؤلاء العلماء جهداً مضنياً في إظهار بهائهما، أدّيا إلى إهمال المعنى كلياً، ومن هؤلاء العلماء الأصمعي، وعمرو بن العلاء الذي نقل رواية الأصمعي، وابنُ رشيق وابن سلّام.
هؤلاء العمالقة جميعاً أهملوا المعنى الذي هو أهم من إعراب البيت.
ولكن.. كل هذا قادنا إليه قاضمُ القلوب، الذي جعلنا نعود للماضي وننبش في تراث الأقدمين، ونبحث عن قلوب الطيور اللينة وفي قلوبها.. وحتى أعشاشها.
فهذا الكاسر سيد الطيور كما يصفه الأقدمون، الذي يطير بجناحيه ليرانا مثل النّمال، لا تقوى ذاته على

التهام قلوب الطيور.. فيما نرى الإنسانَ السائر على قدمين ضعيفتين تقوى ذاته على هذا الفعل الشنيع
والمرعب!
يقول الأقدمون عن العقاب إنَّها إذا صاحت تقول: «في البعد عن الناس راحة». لا أعلم كيف دخلوا في قلوبها ليقوّلوها هذا الكلام الخادش لهم. أم أنَّهم كنّوا عن هذا ليبينوا الحذر من بعضهم بعضاً؟!
في تعريف القلب يقول علماء اللغة إنَّه «مُضْغةٌ من الفُؤَاد مُعَلَّقةٌ بالنِّياطِ»
ويرى آخرون أنَّه الفؤاد.
وفي العربية يجوز لك أن تقول: ما لَكَ قَلْبٌ، وما قَلْبُك معك؛ تقول: ما عَقْلُكَ معكَ، وأَين ذَهَبَ قَلْبُك؟ أَي أَين ذهب عَقْلُكَ؟
وهو ما تجده في الإنجليزية أيضاً.
وقالوا إنَّ القلب سمي قلباً لتقلبه.
قال عمر بن أبي ربيعة:
ما سُمِّيَ القَلْبُ إلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ
ولا الفؤادُ فؤاداً غيرَ أنْ عقلَا
وإن كان القلبُ علمياً يشار إليه بأنَّه أداة ضخ للدم لا غير، إلا أنَّ العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ما زال

يعدّ هذه المضغة أداة للعاطفة والحب والشعور، ويرون أنَّ القلبَ هو المسؤول الأول عنها وليس الدماغ.
لكن... هل يفقد الإنسان قلبه.. فيقضم قلبَ أخيه.