ما من شك أن أيام تركيا المقبلة ليست كأيامها السابقة. فالبلاد التي شهدت زلزالاً مدمراً منذ نحو شهرين، مقبلة على زلزال سياسي هو الأعنف في العقدين الماضيين.
ومع توقيع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على مرسوم الانتخابات النيابية والرئاسية التي ستجرى بدءاً من 14 مايو (أيار) المقبل، تبدأ ريشة الرسامين السياسيين برسم ملامح مستقبل البلاد، وطريقة حكمها.
أمام المعارضة التركية الكثير من المعضلات في هذه الانتخابات، ولعل أبرزها محاولة تجنب السيناريو الإسرائيلي في الحكم، أي عندما اجتمعت أطياف المعارضة غير المتناسقة لمواجهة بنيامين نتنياهو، بهدف إزاحته عن الحكم.
هذا السيناريو أوصل البلاد إلى أزمة سياسية، إذ لم يستطع رئيس الحكومة نفتالي بينت الحكم بفعالية، نتيجة التحالفات غير المتسقة التي أجراها. ومع وصول البلاد إلى أزمة داخلية، استطاع نتنياهو المحنك سياسياً، شق طريقه والعودة إلى السلطة، على رأس حكومة أقل ما يُقال عنها أنها الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل.
وفي تركيا، اتفقت المعارضة على مرشحها كمال كيليجدار أوغلو، واحتاجت للوصول إلى هذا الخيار أكثر من 72 ساعة من المفاوضات.
وحتى مع وصول «الطاولة السداسية» في إشارة إلى الأحزاب الستة المنضوية تحت لواء المعارضة، إلى توافق، خرجت زعيمة «حزب الجيد» ميرال أكشنار لتخالف الإجماع العام وتبدي اعتراضها على ترشيحه، قبل أن تقبل لاحقاً.
ورغبت أكشنار بترشيح عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو أو عمدة أنقرة منصور يافاش، لمنافسة إردوغان، بوصفهما الأقدر على المنافسة.
واستطاعت المعارضة لملمة التشرذم، بعدما اتفقت على تعيين الرجلين نائبين لكمال كيليجدار أوغلو إذا فاز.
برامج ضد إردوغان
بعيداً عن التشرذم الداخلي، فإن المعارضة وضعت محو إرث إردوغان نصب أعينها إن فازت، إذ تعهدت العودة إلى «الديمقراطية البرلمانية» وإلغاء النظام الرئاسي الذي أرساه إردوغان عام 2018.
وتخطط المعارضة وفقاً لبرنامجها الذي أعلنته في السابع من مارس (آذار) الجاري، إلى إعادة منصب رئيس الوزراء الذي ألغاه إردوغان عقب الانتقال إلى النظام الرئاسي، وتحويل منصب الرئيس إلى منصب «محايد» وإلغاء حق الرئيس في الاعتراض على التشريعات وإصدار المراسيم.
هذه الأفكار التي تعتبر مواجهة مباشرة لقرارات إردوغان ورؤيته للدولة التركية التي رسّخها طوال سنوات حكمه، ليست بالأمر الهين. فإردوغان الذي وصل إلى السلطة عام 2002، وسط شعبية كبيرة دعمته خلال هذه السنوات، لم يلجأ إلى تعديل نظام الحكم إلا بعد أكثر من عقد من الحكم، وذلك بعدما رتّب ملفاته طوال سنوات حكمه للوصول إلى هذه المرحلة.
ومع تلويح المعارضة بإلغاء ما قام به إردوغان بغض النظر عما إذا كان قراراً صحيحاً أم خاطئاً، فإنها تحتاج إلى سنوات طويلة من عمليات «إلغاء التمكين» الإردوغاني في صلب النظام الحاكم.
ومن نافل القول إن إردوغان لن يقف متفرجاً على المعارضة التركية وهي تهد ما بناه طوال أكثر من عقد في الحكم، خصوصاً أنه لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة، حتى ولو خسر الانتخابات.
وطبعاً من غير المعروف ما الذي يمكن لإردوغان القيام به في حال حدوث هذا الأمر، ولكن ما هو مؤكد أنه لن يمنح المعارضة التركية رفاهية الاستقرار السياسي من دون مواجهة.
ولعل أبرز معضلات المعارضة التركية الأخرى تتمثل في الوضع الاقتصادي. إذ سترث هذه المعارضة، إن فازت، وضعاً اقتصادياً صعباً يبدأ بضعف قيمة الليرة أمام الدولار، ولا ينتهي بغياب أفق الاقتصاد العالمي وتأثيراته على الدول النامية والناشئة.
وعلى رغم أن المرشح المفترض هو اقتصادي سابق، إلا أن الظروف المحيطة بالاقتصاد التركي في حال فاز صعبة الحل، خصوصاً أنها ظروف عالمية وليست مرتبطة بتركيا وحدها.
وفي الشأن العالمي، فإن العالم مقبل على رفع متواصل لأسعار الفائدة الأميركية، وهو ما يؤثر على الاستثمارات الخارجية في أغلب الدول النامية والناشئة، كما يضعف من قدرة الأفراد على الدخول إلى عالم الأعمال، وذلك بسبب الكلفة المرتفعة للأموال، وزيادة قوة الدولار أمام العملات الأخرى.
وإضافة لما سبق، فإن تركيا واظبت خلال السنوات الماضية، على اعتماد سياسة نقدية فريدة تتمثل في خفض أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، في وقت كانت أغلب البنوك المركزية حول العالم تتجه لرفعها.
ولجأ إردوغان إلى إقالة ثلاثة حكام للبنك المركزي خلال عامين، حاولوا التمرد على سياسته بشأن أسعار الفائدة.
ورغم سياسات إردوغان، إلا أن التضخم لم ينخفض، بل واصل تحقيق الأرقام القياسية، ليصل إلى نحو 85% العام الماضي.
ورغم هذه السياسات التي أضرت من دون أي شك بشعبية إردوغان، إلا أن الرئيس التركي استطاع زيادة هذه النسب منذ الصيف الماضي، من خلال زيادة الحد الأدنى للأجور، وهو ما يزيد من صعوبة مهمة المعارضة.
في المحصلة، فإن المعارضة التركية أمام معضلات عديدة كلها تدور حول إردوغان الذي من دون أي شك سيبقى بالمرصاد في حال خسر، منتظراً اللحظة المناسبة للعودة إلى السلطة، ومحو كل ما تمكنت المعارضة من القيام به، للمرة الثانية، وبالتالي تكرار سيناريو إسرائيل مجدداً.