د. عبد الجليل الساعدي

كاسرة وقلوبها مرهفة

خطر ببالي وأنا أستمعُ صدفةً إلى أخبار هذا العالم الثالث بيت الضليل: كأنّ قلوبَ الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العنابُ والحشفُ البالي لكنني تذكرت في الآن نفسه بيت أبي البقاء الرندي: لـِمثلِ هـذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ إنْ كانَ فـي القلبِ إسلامٌ وإيمانُ وطافَ بأفقي بيتٌ لشاعر الرومانسية الإنجليزي الغابر ويليام وورثسوورت في قصيدته «قوس قزح»: قلبي يقفز.. حين ألمح قوسَ قزح..

أساطير غربية

يرى الإنكليز، أو هكذا تقول أساطيرُهم، أنَّ دخول الطائر الجميل أبي الحنَّاء لبيتٍ من البيوت يجلبُ الفألَ السيئَ، ويُخرب الديارَ ويحبط الآمال.

شوك كاليدونيا الفتَّاك

آهٍ من زمهرير أسكوتلندا عندما يكون الشتاءُ في ذروته. بل آهٍ منه في كل شهر من شهور السنة. فزائر أسكوتلندا لا مناصَ له من لسعة بردِها، حتى ولو زارها في مهرجانِها الثقافي السنوي. بعض الأسكوتلنديين ينصحون زوَّارَهم بأن يذهبوا إلى غلاسكو، وإذا سألت لماذا؟ أجبتَ بأنَّ غلاسكو تبتسم لزائريها أكثر من غيرها من مدن أسكوتلندا. لكن هذا القول لا يقي من سطوة زمهرير الشمال وبرده القارس. في مواسمَ معينة ينصرف الأسكوتلنديون إلى عادتهم المحببة وهي اصطياد القطا. ويذكّرك هذا النشاط بالقول العربي: «لو ترك القطا ليلاً لنام».

موت القلم

عدَّ الأقدمون أنَّ القلم أشدُّ من السيف فتكاً، وإن كانوا لم يذكروا القلمَ صراحة إذ عبَّروا عنه باللسان. ووظيفة القلم كانت تقييد الكلام وتسجيله، حتى لا يضيع مع النسيان. فأضحَى ما يقوله اللسان يسجله القلم. يروى في الكتب القديمة، والعهدة على الناقل الأول، أنَّ سليمان سأل عفريتاً عن الكلام، فقال: ريح لا يبقَى. قال: فما قيْدُه..؟ قال: قيده الكتابة. ولهذا يقول الليبيون (قيّد هذا) أي سجله، حتى (لا يذهب مع الريح). وجاء هذا من قيَّدَ فلان الدابة، أي ربطها ومنع تحركَها. ولكنَّ الكلامَ لم يعد ريحاً الآن.

فم وفوه وثغر

ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدْ مرًّا به الماءَ الزلالا وفي الأمثال قالوا: في فمي ماء، وهل ينطق من في فمه ماء؟ أفواهها مجاسها. وقالوا: حتى يلينَ لضرسِ الماضغِ الحجرُ. والفَمُ أصلُه فَوْهٌ، نقصتْ منه الهاء فلم تحتمل الواو الإعراب لسكونها، فعوِّضَ عنها الميم. فإذا صغَّرت أو جمعت رددته إلى أصله وقلت فُوَيْهٌ وأفْواهٌ، ولا يقال أفْماءٌ. فإذا نسبت إليه قلت فَميٌّ وإن شئت قلت فَمَوِيٌّ، تجمع بين العوض وبين الحرف الذي عوِّض منه، كما قالوا في التثنية فَمَوانِ. *** الفوه قالوا: يداك أوكتا وفوك نفخ. الفُوهُ أَصلُ بناء تأْسِيسِ الفمِ.

أصابع

يجد المرء متعة لا حدود لها وهو يقرأ دواوين الشعراء الغابرين، ونثر الناثرين والقواميس التي ألفها جهابذة اللغة. يغمرك ارتياح كبير وأنت تتوغل في هذه الكتب، وتهرب من الحاضر. دعونا نتحدث عن الأصابع التي لا يمكن الاستغناء عنها مهما داهمنا من تقدم تكنولوجي..

آذان

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا *** لَقَد أَنَلتُكَ أُذنًا غَيرَ واعِيَةٍ وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَمِ والأُذْنُ والأُذُنُ، يخفَّف ويُثَقَّل: من الحواسّ وهي مؤنث، والذي يراه سيبويه أُذْن، بالضم، والجمع آذانٌ لا يُكسَّر على غير ذلك، وتصغيرها أُذَيْنة، ولو سَمَّيْت بها رجلاً ثم صغَّرْته قلت أُذَيْن، فلم تؤَنِّث لزوالِ التأْنيث عنه بالنقل إلى المذكر، فأَما قولهم أُذَيْنة في الاسم العلم، فإنما سمي به مصغَّراً. ومنه أذينة ملك تدمر السورية..

أيادٍ

لخولةَ أطلالٌ ببرقةَ ثهمدِ تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ *** تكلّفتُ من عفراءَ ما ليسَ لي بهِ ولا بالجبالِ الراسياتِ يدانِ *** لقد رسختْ في القلبِ منك محبّةٌ كما رسختْ في الراحتينِ الأصابعُ *** التصق التعبيرُ باليد عند العرب بالعطاء والجود، كما استعملت للتعبير عن القوة والطول، كما جاء في التعبير القرآني: (يد الله فوق أيديهم)، ويقولون: يد الله مع الجماعة. كما أن اليد هي أداة الربط والحل. واليَدُ: الغِنَى والقُدْرةُ، تقول: لي عليه يَدٌ أَي قُدْرة.

ألفاظ دَرَسَتْ

في زمن الاختصارات اللغوية الذي نعيشه، يجد الإنسان أنه من الصعوبة بمكان، الاستغناء عن مفردات كانت سائدة. ولسبب غير معروف اختفت. إذ أنه من الطبيعي أن تزداد المفردات لا أن تنقص، لأن الناس ازدادت احتياجاتهم وطلباتهم، وبالتالي وجب ابتكار مفردات جديدة. نعم قد تستبدل مفردة بأخرى، ولكن أن يستغنى عن واحدة من دون وضع بديل فذلكم أمر محيّر. *** نقول في العربية: فلان يُكَمْهِلُ أو كمهل: هذا التعبير يكفينا سطرا من حشو الكلام: فكمهل تعني: حزم حقائبه وجمع ثيابه استعدادا للسفر. وتعني أيضا كَمْهَل فلان علينا: منعنا حَقَّنا. وكلمة مِيل: استعارها الإنجليز من العربية وأهملها العرب.

وجوه

الوجوه.. لا فكاك منها، تحاصرك في اليقظة بل حتى في الأحلام، لا تستطيع أن تفلت في عزلتك منها، تخلد للراحة في محل إقامتك لتهرب منها، فتأتي إليك من كل جانب، تتخلص من التلفزيون، وتظن أنك حبستها، فتزداد غلغلة في خيالك، محاصرة إياك، بل خانقة وحابسة أنفاسك. تحاول أن تنسى الوجوه، تقرأ في علم الكواكب لتهرب إلى سماء الله الواسعة فتصطدم بها هناك، إنها قبالتك بعدد النجوم، تقرأ عن علم البحار وتسبح بخيالك في جزره المرجانية وتنساق مع جمالها الخلاب، فترى الوجوه أمامك وخلفك وعن يمينك وشمالك. تخرج إلى اليابسة مجددا وتقرأ في الجغرافيا، ولكنك ترى الخرائط شبيهة بالوجوه.