د. عبد الجليل الساعدي
TT

ألفاظ دَرَسَتْ

في زمن الاختصارات اللغوية الذي نعيشه، يجد الإنسان أنه من الصعوبة بمكان، الاستغناء عن مفردات كانت سائدة. ولسبب غير معروف اختفت. إذ أنه من الطبيعي أن تزداد المفردات لا أن تنقص، لأن الناس ازدادت احتياجاتهم وطلباتهم، وبالتالي وجب ابتكار مفردات جديدة. نعم قد تستبدل مفردة بأخرى، ولكن أن يستغنى عن واحدة من دون وضع بديل فذلكم أمر محيّر.
***
نقول في العربية: فلان يُكَمْهِلُ أو كمهل: هذا التعبير يكفينا سطرا من حشو الكلام:
فكمهل تعني: حزم حقائبه وجمع ثيابه استعدادا للسفر.
وتعني أيضا كَمْهَل فلان علينا: منعنا حَقَّنا.

وكلمة مِيل: استعارها الإنجليز من العربية وأهملها العرب.
المِيلُ بالكسر قَدْرُ مَدِّ البَصَرِ، ومَنارٌ يُبْنَى للمُسافِرِ، أو مسافةٌ من الأرضِ مُتَراخيَةٌ بِلا حَدٍّ. وكانوا يعرفونه بأنه مئةُ ألْفِ إِصْبَعٍ إلا أربعةَ آلافِ إصْبَعٍ، أو ثلاثةُ أو أربعَةُ آلافِ ذِراعٍ بحَسَب اخْتِلاَفِهِمْ في الفَرْسَخِ، هل هو تِسْعَةُ آلافٍ بذراعِ القُدَماءِ، أو اثنا عَشَرَ ألْف ذِراعٍ بِذِراعِ المُحْدَثينَ. وجمع الميل أمْيالٌ ومُيولٌ.
لكن الغريب أن العرب الآن لا يستخدمونه في لغتهم، ويستخدمون الكيلو متر مكانه. بينما البريطانيون ما زالوا يستخدمونه إلى الآن. ويرون في القياس بالكيلو متر، امتثالا لالتزامات الوحدة الأوروبية، شيئا مربكا.

لكن هذا ديدن الأمم، وحال الدول، فالمجتمع الإنساني يستعير بعض المفردات من بعضه بعضا، وهذا جيد بل مطلوب. ولكن متى؟
يحدث ذلك بسبب العلاقات، وعندما تغلب بعض المفردات، أو حينما لا تفي اللغة المعنية أو لا تجودُ بها. ولكن ما معنى أن تستعمل لفظة دخيلة ولغتك تفي بذلك؟
وما معنى المبالغة في استعمال ألفاظ، لغتك الأصلية تجود بمثلها وبأحسن منها؟ّ!
***
المَدَرُ: قِطَعُ الطينِ اليابِسِ، أو الطينُ العِلْكُ الذي لا رمل فيه، واحدته مَدَرَةٌ؛ وامْتَدَر المَدَرَ: أَخَذَه.
لو أن أحدا زار دولا في جنوب آسيا وبعض الدول الأفريقية، وخاصة أريافها، لوجد أن كثيرا من سكان هذه المناطق تبني بيوتها بالطين.
ولكن ماذا لو خلط هذا الطين بالتبن، فماذا نقول عنه، وهل تسعفنا اللغة العربية بكلمة في هذا المجال؟
فلو قلنا مثلا: هذه بيوت بنيت بالسّياع
هل هذا كلام مفهوم لدى العرب اليوم؟
السّياع كلمة فصيحة، وهي تعني: الطين المخلوط بالتِّبْن الذي يُطَيَّنُ به؛ قال القطامي:
فلمَّا أَنْ جَرَى سِمَنٌ عليها
كما بَطَّنْتَ بالفَدَنِ السَّياعا
وهو مقلوب، أَي كما بَطَّنْتَ بالسَّياعِ الفَدَنَ، تقول منه: سَيَّعْتُ الحائطَ إِذا طَيَّنْتَه بالطين. وسيّعت السفينة: طليتها بالقار.
وهي كلمة جديرة بأن تبقى في قاموسنا العصري.
والفدن تعني القصر والجمع أَفْدانٌ، قال عنترة:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها فدن......
***
الغَضَارُ: الطّين الحُرّ. والطين اللاَّزب الأَخضر.
الغضارَةُ: طيبُ العيش. تقول منه: إنهم مَغضورونَ، وقد غَضَرَهم الله. وإنَّهم لفي غَضارَةٍ من العيش، وفي غَضْراءَ من العيش، أي في خِصْبٍ وخير. وهي من التعابير التي اندثرت.
***
مفردة مثل قولنا سفنجة، من المفردات التي درست، وهي مثلها مثل قولنا: هقلة والمذكر هقل... الرأل وجمعه رئال، كما نقول أيضا الظليم للذكَر من النعامِ، والجمع أَظْلِمةٌ وظُلْمانٌ وظِلْمانٌ، ومثله الخَفيْدَد
وهو الظليم الطويل الساقين، والجمع خَفاددُ وخَفَيْدَدات؛ قيل للظليم خَفَيْدَد لسرعته، وهو من خَفِدَ خَفَداً وخَفَدَ يَخْفِدُ خَفْداً وخَفَداناً: كلاهما أَسرع في مشيه.
وقالوا في الامثال: أشرد من خفيدد.
وأشم من النعامة: لأنها تصل الى حاجتها بالشم.
***
والحِسْكِل، بالكسر: الصِّغار من ولد كل شيء، وخَصَّ بعضهم بالحِسْكِل ولد النَّعام أَوَّلَ ما يولد وعليه زغَبُهُ، الواحدة حِسْكِلة؛ قال علقمة:
تَأْوِي إِلى حِسْكِل زُغْبٍ حَواصِلُها
كأَنَّهُن، إِذا بَرَّكْن، جُرْثُوم.
والجرثوم أماكن مرتفعة عن الأرض مجتمعة من تراب أو طين.
وإذا قلنا إنه لا لزوم لمفردة مثل سفنجة وهقلة، فأين اختفت بقية المفردات؟

والسؤال هنا: لماذا ليس في قاموسنا العصري سوى مفردة النعامة؟ ولماذا اختفت هذه المفردات كلها؟
***
وما دمنا بصدد مادة ظلم دعونا نتطرق إلى بعض منها:
أَصلُ الظُّلْمِ وَضْعُ الشيء في غير موضعه.
ومن أمثال العرب في الشَّبه: مَنْ أَشْبَهَ أَباه فما ظَلَم؛
والظلم مرتعه وخيم.
وظلم ذوي أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
وفي المثل: من اسْترْعَى الذِّئْبَ فقد ظلمَ.
وأصل الظُّلم الجَوْرُ ومُجاوَزَة الحدِّ،
وفي القرآن: الذين آمَنُوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ؛ وقوله: إن الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيم.
والظُّلْم المَيْلُ عن القَصد، والعرب تَقُول: الْزَمْ هذا الصَّوْبَ ولا تَظْلِمْ عنه أي لا تَجُرْ عنه.
يقال: ظَلَمَه يَظْلِمُهُ ظَلْماً وظُلْماً ومَظْلِمةً، فالظَّلْمُ مَصْدرٌ حقيقيٌّ، والظُّلمُ الاسمُ يقوم مَقام المصدر، وهو ظالمٌ وظَلوم على وزن فعول صيغة من صيغ المبالغة، وكذلك ظليم فعيل. وأيضا الظلام على وزن فعال: وفي القرآن الكريم: وما ربك بظلام للعبيد’ وظَلَمه حقَّه وتَظَلَّمه وتَظَلَّم منه: شَكا مِنْ ظُلْمِه.
والظَّلَمةُ المانِعونَ أهْلَ الحُقوقِ حُقُوقَهم؛ يقال: ما ظَلَمَك عن كذا، أي ما مَنَعك.
وظَلَّمه أَنْبأَهُ أنه ظالمٌ أو نسبه إلى الظُّلْم؛ قال:
أَمْسَتْ تُظَلِّمُني ولَسْتُ بِظالمٍ
وتُنْبِهُني نَبْهاً ولَسْتُ بِنائمِ
والظُّلامةُ: ما تُظْلَمُهُ، وهي المَظْلِمَةُ. قال سيبويه: أما المَظْلِمةُ فهي اسم ما أُخِذَ منك.
وأَردْتُ ظِلامَهُ ومُظالَمتَه أي ظُلمه؛ قال: ولَوْ أَنِّي أَمُوتُ أَصابَ ذُلاًّ، وسَامَتْه عَشِيرتُه الظِّلامَا والظُّلامةُ والظَّلِيمةُ والمَظْلِمةُ: ما تَطْلُبه عند الظّالم، وهو اسْمُ ما أُخِذَ منك.
ويقال: ظُلِم فُلانٌ فاظَّلَم، معناه أنه احْتَمل الظُّلْمَ بطيبِ نَفْسِه، وهو قادرٌ على الامتناع منه، وهو افتعال، وأَصله اظْتَلم فقُلبت التاءُ طاءً ثم أُدغِمَت الظاء فيها.
وكانوا يقولون: أَظْلَمُ من حَيَّةٍ لأنها تأْتي الجُحْرَ لم تَحْتَفِرْه فتسْكُنُه.
وقوله عز وجل: آتَتْ أُكُلَها ولم تَظْلِم مِنْه شَيْئاً؛ أي لم تَنْقُصْ منه شيئاً.
والظَّلِيمةُ والظَّلِيمُ: اللبَنُ يُشَرَبُ منه قبل أن يَرُوبَ.
وتقول المَظْلُوم ايضا:
والسَّخِيُّ أي الجواد الكريم يُظْلَمُ إذا كُلِّفَ فوقَ ما في طَوْقِهِ، أَو طُلِبَ منه ما لا يجدُه، أَو سُئِلَ ما لا يُسْأَلُ مثلُه، فهو مُظَّلِمٌ وهو يَظَّلِمُ وينظلم؛ أَنشد سيبويه قول زهير:
هو الجَوادُ الذي يُعْطِيكَ نائِله
عَفْواً ويُظْلَمُ أَحْياناً فيَظَّلِمُ
أَي يُطْلَبُ منه في غير موضع الطَّلَب، وهو عنده يَفْتعِلُ،
وفي افْتَعَل من ظَلَم ثلاثُ لغاتٍ: من العرب من يقلب التاء طاء ثم يُظْهِر الطاء والظاء جميعاً فيقول اظْطَلَمَ، ومنهم من يدغم الظاء في الطاء فيقول اطَّلَمَ وهو أَكثر اللغات، ومنهم من يكره أَن يدغم الأَصلي في الزائد فيقول اظَّلَم.

والظُّلْمَة والظُّلُمَة، بضم اللام: ذهاب النور، وهي خلاف النور، وجمعُ الظُّلْمةِ ظُلَمٌ وظُلُماتٌ وظُلَماتٌ وظُلْمات؛
والظَّلامُ اسم يَجْمَع ذلك كالسَّوادِ ولا يُجْمعُ، ويَجْري مجرى المصدر، كما لا تجمع نظائره نحو السواد والبياض.
وليلةٌ ظَلْمةٌ، على طرحِ الزائد، وظَلْماءُ كلتاهما: شديدة الظُّلْمة.
وليلة ظَلْماءُ، ويوم مُظْلِمٌ: شديد الشَّرِّ؛ أَنشد سيبويه:
فأُقْسِمُ أَنْ لوِ الْتَقَيْنا وأَنتمُ
لكان لكم يومٌ من الشَّرِّ مُظْلِمُ
وأَمْرٌ مُظْلِم: لا يُدرَى من أَينَ يُؤْتَى له.
ونَبْتٌ مُظلِمٌ: ناضِرٌ يَضْرِبُ إلى السَّوادِ من خُضْرَتِه.

غير أن أغرب من هذا هو أن معنى الظَّلْمُ الثَّلْج أيضا.
والظَّلْمُ الماءُ الذي يجري ويَظهَرُ على الأَسْنان من صَفاءِ اللون لا من الرِّيقِ، حتى يُتَخيَّلَ لك فيه سوادٌ من شِدَّةِ البريق والصَّفاء؛ قال كعب بن زهير:
تَجْلو غَواربَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمَتْ
كأَنه مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلولُ
وقال شاعر آخر:
إلى شَنْباءَ مُشْرَبَةِ الثَّنايا
بماءِ الظَّلْمِ طَيِّبَةِ الرُّضابِ
والظَّلْمُ بياضُ الأَسنان كأَنه يعلوه سَوادٌ، والغُروبُ ماءُ الأَسنان. ويقول الجوهري: الظَّلْمُ، بالفتح، ماءُ الأَسْنان وبَريقُها، وهو كالسَّوادِ داخِلَ عَظمِ السِّنِّ من شِدَّةِ البياض كفِرِنْد السَّيْف؛ قال يزيد ابن ضَبَّةَ:
بوَجْهٍ مُشْرِقٍ صافٍ
وثغْرٍ نائرِ الظلْمِ
وذهب آخرون إلى الظَّلْمُ رِقَّةُ الأَسنان وشِدَّة بياضها، والجمع ظُلُوم.