مر على البرازيل نجوم أفذاذ في كرة القدم، لكن لم يكن لأحد هذا التأثير الطاغي الذي تركه بيليه، المهاجم الذي تخطى كل العقبات وتسلق سلم النجومية من القاع إلى القمة متحدياً ظروفاً معيشية صعبة وثقافية واجتماعية قاهرة.
الجوهرة السوداء كما يطلق عليه ترك أثراً مشعاً وفتح آفاقاً كبيرة لأجيال كانت ترى كرة القدم هي الملاذ الوحيد للهروب من الفقر، وكان للاسم الحقيقي لبيليه «إديسون» تيمناً بمخترع المصباح الكهربائي توماس إديسون، جزء أصيل من مشواره الذي أضاء فيه الطريق لمواهب كثيرة برازيلية كان الشارع هو الملجأ الوحيد لإبراز مهاراتها وفنونها.
بيليه الذي كان يمسح الأحذية وينظف أرضية المقاهي صغيراً حتى لا يحمل أسرته أعباءً فوق طاقتها، كان مجنوناً بكرة القدم، يلعبها حافياً، وإذا امتلك بعض المال يشتري جورباً قماشياً، ولم يكن باستطاعته امتلاك حذاء كالذي كان يمسحه.
والده الذي كان يلعب الكرة ويؤمن بموهبة ابنه الصغير، لم يكن باستطاعته سوى تقديم النصائح وتعليم بيليه فنون اللعبة، ليبهر أقرانه في الشارع والمتفرجين الذين يصطفون على الأرصفة. ومن هنا كانت بداية القصة للجوهرة التي فاق شعاعها حدود الحي إلى أندية ساو باولو ليجد نفسه في قمة المعترك الاحترافي بسن لم تتجاوز الخامسة عشرة، بل وانضم لمنتخب البرازيل الأول وهو لم يتجاوز السابعة عشرة.
بيليه الذي حصد مع منتخب بلاده ثلاثة ألقاب في كأس العالم أعوام 1958 و1962 و1970 في إنجاز فريد لم يستطع لاعب غيره تحقيقه، وسجل ما يصل إلى 1000 هدف بمسيرته، كان له الفضل في تغيير جذري للثقافة البرازيلية والنظرة المتدنية للاعبين «السود»، لذا ما عبّر عنه نيمار نجم هذا الجيل بقوله: «لقد غيّر بيليه كل شيء، وجعل كرة القدم فناً، ومنح صوتاً للفقراء ولأصحاب البشرة السوداء وفوق كل شيء فتح باب المجد للبرازيل». هو جزء من حقيقة الجوهرة المشعة للأجيال.
ما لم يكن يعرفه كثيرون عن بيليه إلى أن أطلق فيلمه السينمائي، هو أنه فقد إحدى كليتيه عندما أصيب بكسر في ضلوعه خلال إحدى المباريات، لكنه كان دائماً يعلق «أمتلك كلية واحدة وثلاثة قلوب»... وما هذا إلا تعبير عن صمود هذا البطل الذي يراه كثيرون أعظم لاعب مر على تاريخ كرة القدم.
كان بيليه، الذي رحل عن عالمنا، رغم ثقافته التعليمية البسيطة له حضور طاغٍ في الأوساط السياسية، وكان يحظى باستقبال الرؤساء أينما حل، ولا ينسى العالم مشهد وصوله لنيجيريا عام 1969 وتأثيره المباشر على تهدئه الحرب الأهلية في إقليم بيافرا الجنوبي، لذا لم يكن غريباً أن يتقلد منصب وزير الرياضة في بلاده عام 1995 كأول رجل أسود يصل إلى هذا المنصب بالبرازيل.
دخل بيليه في سجال وخلاف كبير مع الأسطورة الأرجنتينية مارادونا، ففي حين كان البرازيلي سياسياً غير صدامي، كان الثاني متمرداً ومثيراً للجدل بانتقاده لكبار القادة وأيضاً اتهامه المباشر لرئيس «فيفا» السابق جوزيف بلاتر بالفساد، في أوج قوة الأخير وسطوته بالاتحاد الدولي لكرة القدم.
لكن بيليه في السنوات العشر الأخيرة لم يقطع حبل الود مع مارادونا فكان ضيفاً على حلقة تاريخية في برنامج تلفزيوني كان يقدمه الأسطورة الأرجنتيني، وكان أول من نعى غريمه الأبدي على لقب الأفضل بالعالم قبل عام حين كتب: «خسر العالم أسطورة. في يوم من الأيام آمل أن نلعب كرة القدم سوياً في السماء».
رحل أسطورتان وسيبقى تأثيرهما على كرة القدم مستمراً وأبدياً...
5:4 دقيقه
TT
بيليه «الجوهرة» المشعة بالإلهام
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة