د. عبد الجليل الساعدي
TT

موت القلم

عدَّ الأقدمون أنَّ القلم أشدُّ من السيف فتكاً، وإن كانوا لم يذكروا القلمَ صراحة إذ عبَّروا عنه باللسان. ووظيفة القلم كانت تقييد الكلام وتسجيله، حتى لا يضيع مع النسيان. فأضحَى ما يقوله اللسان يسجله القلم.
يروى في الكتب القديمة، والعهدة على الناقل الأول، أنَّ سليمان سأل عفريتاً عن الكلام، فقال: ريح لا يبقَى. قال: فما قيْدُه..؟ قال: قيده الكتابة.
ولهذا يقول الليبيون (قيّد هذا) أي سجله، حتى (لا يذهب مع الريح). وجاء هذا من قيَّدَ فلان الدابة، أي ربطها ومنع تحركَها.
ولكنَّ الكلامَ لم يعد ريحاً الآن. بل يمكن قيدُه بسهولةٍ ويسر بواسطة تسجيله بعملية أسهل من عمليتي الشهيق والزفير اللتين نحتاجهما لنحيا.
في مبنى توماس جيفرسون الواقع فوق مبنى الكابيتول وفي مكتبة الكونغرس الأميركي بالتحديد توجد عبارة من مسرحية (روتشيليو) أو المؤامرة تقول: تحت قيادة الرجال العظماء يكون القلم أقوى سطوة من السيف. وهي عبارة للكاتب الإنجليزي الراحل إدوارد بلوير ليتون قالها في نهاية العقد الرابع من القرن التاسع عشر.
لكن في واقع الأمر أنَّ جيفرسون نفسه استعمل هذا المعنى قبل إدوارد هذا، وبكلمات أخرى تحمل المعنى نفسه.
يقول الرئيس جيفرسون في رسالة للناشط والمنظر السياسي والفيلسوف الثائر توماس باين:
عليك بالاستمرار في عملك هذا بقلمك، وهو ما كان في الماضي يُدار بالسيف.
نابليون بونابرت استعمل العبارة أيضاً بشيء من التصرف إذ قال:
إنَّ أربع صحف عدائية كفيلة بأن يُخشى منها أكثر ما يُخشى من ألف حربة.
وفي موضع آخر يقول: توجد في العالم قوتان فقط، هما السيف والعقل. ولكن في الختام يقهر العقلُ السيفَ دائماً.
لكن نابليوني دي بونابرته الغازي المحارب أعمل السيفَ أكثر مما أعملَ العقل.
كان الكتاب يمسكون القلم بإصبعين اثنين أو ثلاثة على الأكثر، وفي هذا العصر الغاشم يوظفون أصابعهم العشرة لكي يمسكوا بالكلام ويقيدوه لئلا يطير.
الآن تغيَّر شكل القلم، ولم يعد في مقدورنا أن نعرف له شكلاً.
كان القلم سيدَ الموقف في الكتابات السالفة، ولم يعد الآن صامداً بثقله السابق، فقد جاء من يحصي عليه أنفاسه، ويخرجه من دائرة الضوء، ويسطو عليه، بل يحاول الآن رميه، طبعاً ليس في مزبلة التاريخ، ولكن على قارعة الطريق، فقد أصبح القلم الآن مثل فردة حذاء حنين لم يعد نافعاً، ولم يعد حمله أو أمره يهمان أحداً، بعد أن كان لا يفارق الجيوب والحقائب والمكاتب، بل وحتى آذان البقالين والخضريين.
يا حسرتا على القلم..! فعلى رغم كفاحه المرير، لم يعد أحد يقدّر له نضالَه هذا. هكذا ببساطة ننسى فضل القلم، هذا الجماد الذي أضاء للبشرية طريقها الحالك، وأنار لها الدياجير المظلمة، وانتشلها من الجهالة، ها هي ذي تنكر جميلَه، وتكاد تلقي به في مزبلة التاريخ. كم هو ناكر للجميل هذا البشري… إن"َه لا يرد الفضل لأصحابه مطلقاً.
أصبح الكاتب الآن لا يفكر في قوة مادته ومتانة متنه، ودقة لغته، ورشاقة مفرداته، ولكنَّه مشغول بتحريك يديه في اتجاهات لا حصر لها من أجل إخراج مادته، حتى وإن افتقدت للنضج. فكيف تكون ناضجة ولوحة مفاتيح الحروف تتقاسم النضج معها، وتنطُّ أصابعه فوقها كعفريت!؟
إنَّ لوحة الحروف وما عليها من علامات الترقيم، وعلامات أخرى كالتنوين مثلاً، كلها تُذهب التفكير، وتشتّت اللبَّ والأفكار، وتشوّش الذهن.
هناك كتَّاب على الرغم من عشقهم للقلم، قرروا منذ زمن الاستغناء عنه، لأنَّ الصحف والمجلات والدوريات، لا تقبل سلاحَهم القديم هذا، وهي لا تكتفي بذلك، بل تعدُّهم من جيل العصر الحجري إن كتبوا بالقلم التقليدي.
في ظل هذا الموت السريري للقلم دعونا نترحّم عليه، ونؤبّنه ونستذكر ما قيل فيه:
القلم «يصيد العلوم، يُبكي ويُضحك. والقلم لا ينطق، لكنه يُسمع الشرق والغرب.. والشمال والجنوب. فهو ينوب عن اللسان، واللسان لا ينوب عن القلم».
يقول ابن المقفع في وصف القلم: «إنه يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، ويمشي على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء. القلم بريد القلب؛ يخبر بالخبر وينظر بلا نظر».
وقالوا في القلم:
وأرقش مرهوف الشباه مهفهف
يشتت شمل الخطبَ وهو جميع
تدين له الآفاق شرقا ومغربا
وتهنو له ملاكها وتطيع
حمى الملك مفطوما كما كان تحتمي
به الأسد في الآجام وهو رضيع
وقالوا أيضاً:
وأهـيف مذبـوح على صدرِ غيره
يترجمُ عن ذي منطق وهو أبكـمُ
تراه قصيراً كلَّما طالَ عمرُه
ويضحى بليغاً وهو لا يتكلَّمُ
قال سهل بن هارون: «القلم لسان الضمير، إذا رعفَ أعلنَ أسرارَه وأبانَ آثاره».
قالت العرب: «عقول الرجال تحت أقلامها»
فهل عقول الرجال الآن تحت لوحة مفاتيح الحروف؟
****
القَلَم: هو أداة الكتابة. والأصل في الكتابة القيد والربط. لأن العرب كانت تقول قديماً: كتب البعير بمعنى قيّده. والجمع أقلام وقِلام. ومنهم من جمعه على أقاليم قال الشاعر:
صَحِيفةٌ كُتِبَتْ سِرّاً إلى رَجُلٍ
لم يَدْرِ ما خُطَّ فيها بالأَقالِيم
والمِقْلَمة: وعاء الأَقْلام.
ولكن لم تعد هذه الأوصاف صامدةً الآن، فقد جاء من وضع لها حداً، وأزال القلم شكلاً ووقعاً.
وهكذا أزاحت لوحة مفاتيح الحروف المسطحة البشعة، ذلك الشكل الرشيق المهفهف الساحر، وحبست عليه أنفاسَه، وأقضَّت مضجعَه.
فهل رفعت الأقلامُ وجفَّت الصحف؟!
* من كتاب «عرب وعرب» للكاتب