يطغى في لبنان هذه الأيام حديثان: المأساة المعيشية، والانتخابات الرئاسية. فالمأساة المعيشية، التي تغلّفها فقاعة إنفاق المغتربين الوافدين، أكبر مما يمكن أن يتصوره إنسان يعيش خارج لبنان أو في منزل فخم، بعيداً من الأزقة والأحياء والقرى على مساحة هذا الوطن الذي يشبه مريضاً ينخر فيه سرطان، فلا يعرف كيف يشفى منه، وإن كثرت العلاجات، ولا يميته ليريح ويرتاح، علماً أن صانعي العلاجات رفعوا السرطان من قائمة الأمراض القاتلة.
أما حديث الانتخابات الرئاسية الذي يشغل الشاشات، فيبدو أنه لا يسمعه سوى المعنيين به من المرشحين والمخططين لاستمرار مصالحهم التي تعلو فوق كل شيء وفوق الجميع وإن كانوا من أتباعهم الذين بدأت تخوي معدهم في أسوأ أيام يعيشونها في "وطن النجوم"! المرشحون كثيرون ومن ميادين شتى، ولا أحد يعرف من سيكون "سعيد الحظ" منهم، ولا متى تأتي كلمة السر لاتنخابه رئيساً. أما الناخبون في الاستحقاق الرئاسي اللبناني فمعروفون، خارجياً وداخلياً. أما الناخبون الخارجيون في هذا الزمن فهم: الأميركي والخليجي وكذلك الإيراني ممثلاً بـ"حزب الله"، فرقته العسكرية المؤلفة من آلاف الشبان اللبنانيين.
أما داخلياً، فالناخب الأول، في نظر نفسه وجموره والمرشحين الموارنة، هو البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي كان أول من فتح المعركة الرئاسية بتحديده مواصفات للرئيس العتيد أبرزها أن لا يشكل تحدياً لأي طرف ويلتزم قضية البلاد وثوابتها الوطنية، ويعيد لبنان إلى حضنه العربي وما إلى ذلك.
واليوم تغيّر خطاب البطريرك، إذ بدأ يظهر مخاوفه من الشغور في رئاسة الجمهورية ويدعو القوى السياسية إلى التوافق على شخصية أو اثنتين، مطالباً البرلمان بأن ينتخب الرئيس خلال المهلة الدستورية التي بدأت في 1 سبتمبر (أيلول) الجاري وتنتهي في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، موعد مغادرة الرئيس الحالي ميشال عون قصر بعبدا إلى منزله.
يدرك البطريرك أن القوى السياسية عاجزة عن التوافق على شخصية، كما أنها عاجزة عن إخراج اللبنانيين من "جهنم" التي يقيمون فيها متألمين، ومتأملين معجزة قد يطول انتظارها. ولئن تعد البطريركية المارونية نفسها صانعة لبنان وحارسة الكيان، وكل اللبنانيين على مختلف مشاربهم أطيافهم معها، وهي لا تستكين في الدفاع عنه عندما يحدق به الخطر، ولئن لم يعرف لبنان خطراً في تاريخه كالذي يعيشه، فلماذا لا يرشح البطريرك، الذي "مجد لبنان أعطي له"، مطراناً أو راهباً أو قسيساً ليتولى سدة رئاسة الجمهورية؟ ربما يقول قائل إن القانون الكنسي يمنع على الراهب أن يتسلم أي وظيفة عامة، لكن ألا يحتاج الوضع اللبناني خروجاً على المألوف؟ ألا يستحق الوضع استناء؟ فاللبنانيون جربوا رؤساء من ميادين شتىّ، المصرفي والسياسي والعسكري، وانتهى به المآل إلى أكثر الحالات سوءاً وبؤساً، فلماذا لا يجرّبون رئاسة راهب زاهد ذي خبرة في بلسمة جروح الناس ورعاية مصالحهم ومصالح وطنهم، خلافاً للسياسي الذي يسعى وراء مصالحه قبل أي مصلحة، والعسكري الذي لا يرد له مرؤسوه أمراً؟ أليست وظيفة الراهب إسعاد الناس في الدنيا والآخرة؟ أليس معظم الرهبان مفكرين ومعلمين وباحثين وأصحاب دراية وخبرة في إدارة شؤون الرعية والمؤسسات؟
أليست بكركي صاحبة القول الفصل في الشأن الماروني والوطني وتخوض معارك لبنان منذ أيام السلطة العثمانية، عندما قيل فيها: "بكركي من عركي لعركي/ لا نورا ولا زيتا شح/ كلن عم يحكوا تركي/ إلا بكركي بتحكي صح"؟! ألا يصح أن تتجاوز بكركي الخطاب إلى الفعل فترشح راهباً، وتروج له لدى حلفائها في الداخل والخارج وهم كثيرون وفاعلون، وتلزم أتباعها بالاقتراع له؟ واذا قيل إن في هذا الطرح مستحيلاً، أفلا يقل استحالة عما يعيشه اللبنانيون اليوم؟
8:2 دقيقه
TT
راهبٌ رئيساً للبنان؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة