هناك عبارة شهيرة لأحد الفلاسفة تقول إن «القراءة هي الإيمان بصمت». تذكرت هذا الكلام الجميل وأنا أدخل المساء الأخير من معرض القاهرة الدولي للكتاب.
كان الجو باردا للغاية، وكنت أنتظر أنا والمئات الذين راحوا يتجولون في أروقة المعرض أن يعثروا على الدفء وسط الكتب والمكتبات الكثيرة، إلا أن ما حدث كان يشعر بالأسى والحسرة وأنا أرى مئات الألوف من الكتب وهي تعبأ في الكراتين مرة أخرى وتغلق معلنة نهاية المعرض ورحيل الكتب إلى بلدانها.
كان العمال والناشرون في عجلة من أمرهم، فالكل يريد أن ينتهي من تخزين الكتب وإرجاعها إلى مخازنها بأسرع وقت، فالبيع انتهى والقراء تركوهم لوحدهم للقيام بهذه المهمة الحزينة!
حاولت العثور على مكتبة واحدة لم تلملم أغراضها بعد، فنجحت بعد جهد جهيد ولهث من جناح إلى آخر، على الأقل كي أقول لنفسي خرجت بكتابين أو ثلاثة ولم أخرج كالجائع.
كنت أتمشى بجانب الأجنحة الخاوية من عروشها، وأتذكر المشهد المهيب في كل سنة أزور المعرض، وأجد مئات الألوف من البشر وهم يحملون أكياس الكتب وغيرهم كراتين من الكتب أيضا. وطبعا حسدت هؤلاء لأنهم استطاعوا أن يفعلوا ما أستطيع القيام به.
حاولت مع أحد الناشرين الذي كان للتو بدأ بأعمال التغليف استعدادا للتصدير، وطلبت منه أن يعطيني 5 دقائق فقط لأرى ما عنده من منشورات جديدة، لكنه رفض بشدة وقال: هذه هي النهاية يا صديقي. لماذا لم تأت مبكرا؟ لماذا تأخرت؟ ثم حاولت مع ناشر آخر أعطاني دقيقتين فقط كي أقلب بعض الكتب. لكن ما فائدة الدقيقتين؟ لقد ذهبت كالبرق!
كلها ساعة حتى وجدت أن الكتب اختفت وتحولت إلى كراتين صماء لا تنبض بالحياة ولا بالدفء. وكأن الناشرين يقولون للعدد القليل من الناس في داخل المعرض: تعالوا وألقوا النظرة الأخيرة على الكتب بدلا من الحسرة عليها، تعالوا ودعوها وادعوا لها بالسلامة في رحيلها حتى تعود لكم السنة القادمة وهى أكثر بهجة ودفئا، ولكي تعود مرة أخرى لقرائها الذين لا يرتوون أبدا!
كان مشهد رحيل الكتب مؤثرا وحزينا بلا مبالغة، فكيف لكل هذه الملايين منها أن ترحل إلى ميناء الإسكندرية البحري ثم إلى وطنها الأم؟
لم أصدق أن علي أن أرحل أنا أيضا ومعي كيسان صغيران يحتويان على 4 كتب هي كل ما خرجت بها من المعرض، لكن خفف من وطأة حزني عندما رأيت أحد الأصدقاء وهو يدور على الأجنحة كالمجنون بحثا عن كتب هنا وهناك.
سألته: هل حصلت على شيء؟ قال بحزم وأسى: لا.. ولكنني سوف أحصل ولو على 10 من المائة مما أريد.
تركت الصديق يعاني من البرد وخرجت من المعرض بسلام وأشعر كأنني يتيم، كالرجل الذي يلملم جراحه وكبرياءه، وهو لا يحمل سوى هذه الكتب القليلة وبعد عناء طويل من البحث.
رحلت الكتب من القاهرة وتركتنا مع الصدمة والذكريات الجميلة ومقهى المثقفين والباعة الجائلين وغيرهم. رحلت وودعت الجميع، وخرجت وغبت في زحام القاهرة الليلي.
7:52 دقيقه
TT
رحيل الكتب
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة