جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

هل اقترب الخلاص من الوباء؟

«لا تعيّر التمساح بقبح أسنانه قبل عبور النهر». هذا ما يؤكده مثل أفريقي تذكرته، خلال الفترة الأخيرة، والبشر يتابعون، بترقب وأمل وغبطة، هذه الأيام، نجاح حملات التطعيم ضد الوباء الفيروسي، في مناطق عديدة من العالم. شكراً للعلماء والباحثين، الذين لولا جهودهم لاستمر انتشار الفيروس الوبائي، وتطورت خطورته. ها نحن قد خرجنا، حالياً، من مربع المقاومة الأول، منتقلين بسرعة إلى مربع المقاومة الثاني. مربع المقاومة الأول تمثّل فيما اتخذته الحكومات من إجراءات تُعدّ دفاعية - احترازية ووقائية - ومن ضمنها الإغلاق العام. في المربع الثاني تطورت حركة المقاومة من الدفاع إلى الهجوم، بعد تمكُّن العلماء في المختبرات العلمية من الوصول بنجاح، وفي فترة زمنية قصيرة، وغير مسبوقة، إلى اختراع سلاح فعال؛ لقاحات مضادة للفيروس، شديدة الفاعلية. لكننا، وفقاً للتقارير الصادرة عن الحكومات أو غيرها من المؤسسات الدولية ذات الشأن، لم نتمكن بعد من عبور النهر إلى ضفة السلامة، مما يعني أننا ما زلنا عرضة للوقوع فرائس للتماسيح. ومن الأفضل لنا، ومن باب الحذر، تجنُّب تذكيرها بقبح أسنانها.
النجاح المبدئي لحملات التطعيم ونتائجها الإيجابية، شجع الحكومات على تصميم خرائط طرق عديدة مؤخراً وضعت تمهيداً للخروج من الأزمة الوبائية، على مراحل، تمّ الإعلان عنها في وسائل الإعلام، وكلها تتنبأ بأن فصل الصيف المقبل، ما لم تحدث نكسات، هو الموعد المأمول، لطي صفحة الإغلاق العام، وعبور النهر بسلام.
مجرد التفكير في خلاص محتمل قريباً يحيي في النفوس مشاعر الأمل بقدرة الإنسانية على الصمود والنصر في معاركها المتواصلة ضد الطبيعة، ويجدد ثقتنا بقدرة العلم ونباهة العلماء وحرصهم على قبول خوض ما تفرضه الطبيعة على الإنسانية من معارك متوالية، وما تضعه أمام البشر من تحدّيات.
التحدي الأكبر الآن، عقب اكتشاف اللقاحات الواقية، أخلاقي بالدرجة الأولى، ويتمثل في تضافر الحكومات الغنية وتعاونها، في دفع شرور الوباء عن شعوب البلدان الفقيرة، وعدم تركها تخوض في أوحال تداعيات الوباء وحدها، وبإمكانيات متواضعة أو شبه معدومة. مشاركة اللقاحات والحرص على وصولها إلى البلدان الفقيرة أمر تحتّمه الضرورة ويفرضه الواقع، لأنه لا نجاة لشعب أو لبلد من الوباء، ما دامت هناك بلدان وشعوب أخرى ما زالت مراتع خصبة لانتشاره. لكن ثمة مشكلة صغيرة، وهي أن الوازع الأخلاقي الإنساني، على مستوى حكومات العالم، زئبقي يتصف بعدم الثبات، وبمؤشر يتحرك لأعلى ولأسفل، وفقاً لما تمليه المصالح، وما تحتّمه أهداف السياسات. ولعلنا لم ننسَ بعدُ ما عايشناه من تقلبات وارتباكات على مستوى التعامل مع الوباء دولياً، في البدايات، وردود فعل عديدة من الدول والحكومات، بهدف حماية شعوبها، وما اتخذته من إجراءات تُعدّ أخلاقياً شائنة، ومدفوعة بأنانية مفرطة، وإن عدّها البعض مشروعة.
ظهور اللقاحات أدّى إلى ظهور مدرستين: غربية وشرقية؛ الأولى تقودها أميركا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، حرصت على وصول اللقاحات إلى كل فرد من مواطنيها، قبل أن ترسل بما توفر لها من شحنات إضافية إلى البلدان الفقيرة. والمدرسة الثانية شرقية تقودها الصين والهند وروسيا، وعلى عكس الأولى، سعت إلى توزيع شحنات من اللقاحات المصنّعة لديها إلى عديد من الدول المجاورة والفقيرة، قبل أن تستكمل تطعيم مواطنيها. الصحافة الغربية أطلقت على العملية اسم «دبلوماسية اللقاحات». وتقوم على أساس منح اللقاحات مجاناً لعدد من الدول المجاورة والفقيرة. الدبلوماسية الجديدة أُعدت أولاً في مطابخ السياسة في بكين، لتحقيق هدفين؛ ظاهر وباطن. أما الظاهر فهو مساعدة الدول الفقيرة، وخصوصاً المجاورة منها في القضاء على انتشار الفيروس، وتقليل الإصابات. أما الباطن فهو توطيد النفوذ سياسياً واقتصادياً.
التحرك الدبلوماسي الصيني سرعان ما استقطب دولة مجاورة: الهند. الدولتان دخلتا سريعاً في تنافس محموم بينهما لتقديم الأمصال مجاناً لعدد من الدول. بل إن الهند حرصت حتى على تقديم شحنات إلى دول ليست مجاورة، ولا تُعدّ فقيرة، مثل البرازيل. وسرعان ما لحقت بهما روسيا. وسائل الإعلام الروسية لا تكف هذه الأيام عن الإشادة بالدور الإنساني والأخلاقي الروسي في زمن الوباء، والمساعدة على إنقاذ الشعوب الفقيرة من ويلاته، خصوصاً في بلدان أميركا الجنوبية. ونشرت الصحف الروسية صورة لطائرة شحن روسية مقبلة من موسكو محمّلة بعدد 10 آلاف حقنة من اللقاح الروسي مجاناً وقد حطت في مطار العاصمة البوليفية، لاباز، وفي استقبالها كان يقف رئيس الحكومة البوليفية، وبرفقته السفير الروسي. وتكرر الأمر مع الأرجنتين، وغيرها.
الروس لم يكتفوا بذلك، بل طوروا الدبلوماسية الجديدة، حين تمكنوا، خلال الفترة الأخيرة، من إقناع النظام في سوريا بقبول إجراء مبادلة لأسرى مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، مقابل الحصول على شحنة من اللقاح الروسي بقيمة 1.2 مليون دولار تدفعها حكومة تل أبيب. التقارير الإعلامية أوضحت أن سوريا لم تقبل بالمبادرة الروسية، إلا بعد موافقة إسرائيل على طلبها بشراء شحنة اللقاحات الروسية ودفع قيمتها. وبذلك، صار من الممكن القول إن اللقاحات أضحت ورقة مساومة رابحة (Bargaining chip) في التفاوض.