توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

الإنسان... الذئب!

الغرض من هذه المقالة هو مجادلة فكرة «الإنسان الذئب» التي أشار إليها زميلنا الأستاذ يوسف أبا الخيل، في سياق تعليقه على الغضب المتفجر في المدن الأميركية إثر مقتل الشاب الأسود جورج فلويد قبل 10 أيام. إنني أعارض هذه الفكرة، لأنها تحولت بالفعل إلى مبرر للتجبر والقسوة واحتقار الضعفاء.
وردت عبارة «الإنسان ذئب الإنسان» في نص أدبي للكاتب الروماني لوكيوس سينيكا الذي عاصر السيد المسيح وتوفي في عام 65 للميلاد. ثم استعملها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588- 1679م) كعنصر تأسيسي في نظريته السياسية. وكتاب «لفاياثان» الذي ضم هذه النظرية، واحد من أهم النصوص المرجعية في علم السياسة الحديث.
هذه الفكرة تقول ببساطة إن الانسان في طبعه الأولي، أميل للشر والفساد. ولو ترك وشأنه فسوف يختار ما يشبع غرائزه ويلبي شهواته الأنانية، ولو على حساب الغير. فإذا اجتمع جمهور كبير، كان احتمال ميلهم للفساد أكبر، نظراً لدخول عامل إفساد إضافي هو «عامل الندرة» الذي يعرفه الاقتصاديون. وتبنى هذه الرؤية أرسطو الفيلسوف اليوناني (توفي 322 قبل الميلاد). وقرر بناء عليها أن الناس لا يطيعون القانون حباً في الفضيلة، بل خوفاً من العقاب.
بقي الحديث عن الطبع الأولي للإنسان عنصراً ثابتاً في الفلسفة السياسية، لزمن طويل جداً، رغم أنه لم يحظَ بحصة ملائمة من البحث النظري. وحسب تقدير البروفسور غاري برنت ماديسون، فإن أي نظرية حول المجتمع السياسي، أي حول البشر بوصفهم فاعلين في الحياة العامة، هي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نظرية حول طبيعة الإنسان ذاته. وأرى أنَّ الصحيح هو القول إنَّ أي نظرية من هذا النوع، يجب أن تبدأ بموقف ميتافيزيقي ثابت حول طبيعة الإنسان، لا سيما إذا كان محور النقاش، هو استعمال القوة ومحدداته، من جانب هيئة مشروعة كالدولة، أو غير مشروعة كالميليشيات الأهلية.
لقد أثرت رؤية أرسطو على التفكير الديني والسياسي، في المجال المسيحي والإسلامي. وقد لاحظت في أبحاث سابقة، أن فكرة الإنسان الذئب، كانت خلفية لآراء كثير من علماء المسلمين، منذ القرن الحادي عشر الميلادي حتى وقت قريب. ومن بينهم مثلاً أبو الفتح الشهرستاني (ت 1153م) في كتابه الشهير «الملل والنحل»، كما استعملها أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 1068م) في سياق تبريره لفكرة الإمامة الدينية. لكن الجدالات التي أثارها كتاب هوبز في المجال الأوروبي، انتهت إلى تقويض الفكرة، وهيمنة الاعتقاد في خيرية الإنسان وصلاح فطرته.
تحدث هوبز عن فكرة الإنسان الذئب، ضمن سعيه لوضع نظرية تفسر سبب قيام السلطة السياسية. وقد بدأ بوضع فرضية فحواها أن الظرف الاجتماعي السابق لقيام الدولة، كان ظرف اضطراب وتقاتل بين الناس. لكنه استدرك بالقول إن الإنسان عقلاني بطبعه، قادر على احتساب عواقب أفعاله. من هنا تنادى الناس إلى إنشاء هيئة تمثلهم وتنوب عن مجموعهم، في منع عدوان بعضهم على بعض، وهي الدولة.
نظرية هوبز هي المرحلة الأهم في فلسفة الدولة الحديثة. لكن تبريره فكرة الدولة المطلقة، التي تسير بموجب هوى الرئيس وليس القانون، لم يكن مقبولاً على الإطلاق. وما يدعو إلى مناقشتها اليوم، هو أنها امتداد لتراث عميق التأثير في الثقافة العربية والإسلامية الحاضرة. وهناك بالطبع بدائل أفضل منها وأكمل. وهذا موضوع سنعود إليه في مقبل الأيام.