كانت الولايات المتحدة قبل ظهور فيروس «كورونا» تحارب المشكلات على عدة جبهات في وقت واحد، من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأوسط، وصولاً إلى المياه قبالة شرق آسيا. ومنذ بداية تفشي الوباء، تحول مسار توجيه الطاقات الأميركية لاتجاهات تختلف عن ذي قبل، لكن التحديات لم تتوقف. يذكرنا فيروس «كورونا» بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تعمل بشكل ملائم عالمياً إن لم تعمل بصورة جيدة في الداخل. وهذا يظهر أيضاً أنه كلما طال أمد اضطراب الأوضاع في الولايات المتحدة، أصبح العالم أكثر فوضى.
إن مقارنة الشؤون الداخلية والخارجية اليوم تتطلب ملاحظة وجود انفصال ملحوظ. فقد عمدت البلدان في جميع القارات إلى إيقاف نشاطات اقتصاداتها ومجتمعاتها، وتباطأت وتيرة التفاعلات العادية إلى حد الزحف. لكن في عالم السياسة الدولية، لم تتوقف أو حتى تتراجع الأنماط العادية للمنافسة.
من المؤكد أن الصين لم تأخذ هدنة من محاولتها السيطرة على غرب المحيط الهادي. فخلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، نفذت السلطات اعتقالات جماعية بحق القادة المؤيدين للديمقراطية في هونغ كونغ، في سلوك يتنافى مع قانون «دولة واحدة ونظامان» الأساسي، وزادت من توسعها في بحر الصين الجنوبي، وتعدت على السمات المميزة للمنطقة، وأغرقت قارب صيد فيتنامياً، وأنشأت هياكل إدارية جديدة بهدف تعزيز هيمنتها على الحيازات المتنازع عليها.
هدَّدت الطائرات الصينية تايوان بتدريبات تهدف إلى اختبار دفاعاتها، وقامت حاملة الطائرات «لياونينغ» وسفن الحراسة التابعة لها باستعراض قوتها بالإبحار بالقرب من الجزيرة، بعد أن أبحرت في السابق عبر المضيق الذي يفصل بين جزيرتي «أوكيناوا» و«مياكو» اليابانيتين.
في الخليج، قامت السفن الإيرانية بمضايقة السفن الحربية الأميركية، وهاجمت الميليشيات المدعومة من إيران المنشآت الأميركية في العراق الشهر الماضي، في إطار دائرة الاستفزاز والردود المستمرة. واستحدثت كوريا الشمالية وتيرة جديدة لاختبارات الصواريخ، حيث أطلقت ثمانية أو ربما تسعة صواريخ في مارس (آذار) الماضي. وبدلاً من الحصول على هدنة بسبب فيروس «كورونا»، شنت حركة «طالبان» هجمات في عدة مقاطعات. وعلى قدر حيلها المعتادة، تستعد روسيا لإرسال مرتزقة إضافيين إلى ليبيا، واختبار صاروخ مضاد للأقمار الصناعية، ونشر نظريات المؤامرة للعب على التوترات داخل أوروبا، ومن المتوقع أنها تستعد للتدخل في الانتخابات الأميركية مجدداً.
من الصعب معرفة ما إذا كانت هذه الأطراف تعمد إلى استغلال الفرص التي أوجدها فيروس «كورونا»، أو على الأقل يفعلون في زمن الوباء ما يفعلونه في الظروف العادية. الواضح أنهم يضغطون لأن الولايات المتحدة مشتتة الانتباه بدرجة كبيرة.
كان انحراف حاملة الطائرات الأميركية «تيودور روزفلت» إلى «غوام» مبرراً تماماً نظراً للأزمة الصحية الحادة التي حدثت على متنها، ومع ذلك سحبت مجموعة حاملة طائرات من غرب المحيط الهادي في وقت حساس. حاملة الطائرات الأخرى في المنطقة «رونالد ريغان» عالقة في الميناء بعد إصابة طاقمها بفيروس «كورونا» أيضاً. وقد تعطلت تدريبات القوات الأميركية في كوريا الجنوبية، وأماكن أخرى، وأوقفت حالة الاستعداد بسبب القيود الصحية المفروضة، وأوقف البنتاغون معظم الرحلات المحلية والدولية.
يحتكر الدمار الذي أحدثه الوباء داخل الولايات المتحدة مورداً نادراً آخر هو انتباه القادة. فكلما زاد الوقت الذي يتعين فيه على كبار المسؤولين في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي تكريسه للتعامل مع تداعيات فيروس «كورونا»، قل الوقت الذي يمكن استغلاله في التعامل مع التحديات القائمة.
يجب ألا نفترض أن الأخيار فقط هم الذين يتأذون، فقد طال الفيروس إيران ليدمر أهلها أيضاً. وقد تعاني روسيا هي الأخرى من أضرار خطيرة خفية، بسبب افتقارها للشفافية والاختبار. ويشك المرء أيضاً في أن «جيش التحرير الشعبي» الصيني يعاني.
في غضون ذلك، تحاول الولايات المتحدة الإشارة إلى أنها خارج اللعبة بالكاد. فقد أثبتت القوات الجوية مؤخراً قدرتها بعرضها لأداء قاذفات B-52 في تتابع سريع من قاعدة «أندرسن» الجوية في «غوام»، في تحذير للصين وكوريا الشمالية. كذلك ردت الولايات المتحدة على وكلاء إيران بعد هجماتهم الصاروخية على قاعدة أميركية شمال بغداد.
ونظراً لأن الولايات المتحدة لديها كثير من الالتزامات، فمن الضروري لها موازنتها حتى في الظروف العادية نسبياً. ولأن صدمات أميركا أكثر وضوحاً من صدمات الأنظمة والحركات المتشددة، فمن الطبيعي أن نتساءل كيف يمكن لواشنطن أن تكون فعالة في الوقت الحالي. فقد توقف الإيقاع الطبيعي لسياسة الولايات المتحدة، على الرغم من أن ما أطلق عليه جورج كينان «الإيقاع الدائم للصراع» في الشؤون العالمية لا يزال مستمراً.
يبدو أن الصينيين قد لاحظوا ذلك بالتأكيد، حيث أفاد موقع «PLA» باللغة الإنجليزية بشكل غير مباشر بأن فيروس «كورونا»، قد «قلل بشكل كبير من القدرة على نشر السفن الحربية التابعة للبحرية الأميركية في منطقة آسيا والمحيط الهادي». فعلى الرغم من أنه من الصعب، وربما خطأ، رسم خط مستقيم بين هذا التقليص المؤقت وسلوك بكين، فإن التصور بأن واشنطن مشغولة أو ضعيفة سيؤثر في نهاية المطاف على اللاعبين، سواء الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء.
الآثار هنا مضاعفة للأسباب التالية: أولاً، يؤكد فيروس «كورونا» بطريقة مثيرة للغاية أنه إذا كانت الولايات المتحدة في حالة من الفوضى الداخلية، فإنها لن تفلح كقوة عالمية. وحتى إن افترضنا حدوث تعافٍ سريع من الوباء، فسوف تكون هناك تكلفة على المدى الطويل لسياسة الولايات المتحدة، فيما يخض استهلاك كثير من المال، الذي يتيعن دفعه في نهاية المطاف من خلال شن غارة على ميزانية البنتاغون.
وفي حال استمرت معاناة الولايات المتحدة من الركود لفترات أطول، ستكون هناك آثار متتالية على وجودها الخارجي، وقد يكون الوضع الصحي المحلي والرخاء هما الركائز الأساسية للحكم السياسي الأميركي، وبانهيارهما سينهار النظام الذي تقوده أميركا.
سيكون ذلك مأساوياً، لأن المحصلة الثانية هي أن أميركا المعطلة أو المنكفئة داخلياً ستؤدي إلى عالم بالغ الاضطراب. وبحسب العالم السياسي هيدلي بول في كتابه العظيم «المجتمع الفوضوي»، فإنَّ الشؤون العالمية ما هي إلا منافسة مستمرة بين القوى المتعارضة. ستكون هناك دائماً أطراف مفترسة تتطلع إلى استغلال حالات الضعف والاضطراب، حتى إن أثر ذلك الاضطراب عليهم أيضاً. إذا كان حراس النظام غائبين، سيختل التوازن ولن تكون النتائج مرضية.
لقد علمنا بالفعل أن التغلب على الوباء بأسرع ما يمكن هو حتمية تتعلق بالصحة العامة والوضع الاقتصادي، لكن تبين أنه ضرورة استراتيجية أيضاً.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:11 دقيقه
TT
أشرار العالم يرون الوباء فرصة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة