باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

غسل العقول

استعراض الأحداث التي توالت على الشرق الأوسط وبعض دوله خاصة منذ اندلاع الربيع العربي يحمل إلى قناعات ثلاث: الأولى أن ما تطورت إليه الأمور والأحداث لم يكن الهدف الأول للانتفاضات الشعبية ولا أحد أهدافها. والثانية أن الاستنجاد بالدول الإقليمية النافذة أو الدول الكبرى، لم يحقق للفريق المستنجد انتصارا حاسما على أخصامه، بل إنه بالعكس أفقده الكثير من صدقيته. والثالثة أن المحصلة الأكيدة الوحيدة من هذه الحروب الأهلية والدولية المشاركة هي تدمير عشرات المدن والقرى وتشريد ملايين المواطنين من ديارهم ومنازلهم وتمزق الوحدة الوطنية في أكثر من دولة عربية، وانبعاث أحقاد طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية كانت راقدة طيلة قرون.
بدأت الانتفاضات الشعبية بمطالب ترفع شعارات الحرية والكرامة بوجه نظم حكم سلطوية، ولكن باستثناء حالة أو حالتين ما لبثت الأحداث أن تطورت في اتجاهات أخرى مختلفة. كان أخطرها الاستعانة بدول كبيرة من قبل المتقاتلين واختلاط المصالح الدولية والإقليمية بالصراعات الوطنية والمحلية، وبالتالي تراجع المصلحة الوطنية والقومية أمام المصالح والاستراتيجيات الدولية، وبات كل حل لعقدة في هذه الصراعات يخلق عقدة جديدة. لصراع جديد.
نموذج عن ذلك تجدد مطلب الأكراد في العراق بمزيد من الاستقلال أو الحكم الذاتي، وربما إعلان دولة مستقلة، الأمر الذي تعارضه حكومتا بغداد وأنقرة، وقد تحولان دون تحقيقه بالقوة. وهذا ربما يشعل مواجهات جديدة بالإضافة إلى الحرب المستمرة في سوريا، ويخلط أوراق التقاتل ليوزعها من جديد.
هذه التحولات في مجاري الحروب ليست جديدة في التاريخ. ولكنها في أيامنا أشد أخطارا.. وليس باستطاعة أي دولة كبرى أو إقليمية نافذة أن تحسم القتال والتقاتل الدائرين في الشرق الأوسط.
صحيح أن اتفاقاً روسياً - أميركياً - أوروبياً باستطاعته وقف القتال وفرض حلول على الأفرقاء والأطراف المتدخلة. ولكن العكس هو الحاصل اليوم، ونعني شبه الحرب الباردة المتجددة بين موسكو واشنطن وغياب استراتيجية أوروبية دولية مشتركة. ثم إن هناك ملفات أخرى تشغل بال الدول الكبرى تتقدم على أزمات الشرق الأوسط.
فهناك مشكلة أوكرانيا ومشكلة كوريا والاستراتيجية الأميركية الجديدة التي سوف يعتمدها الرئيس الأميركي الجديد، وهناك خصوصا امتداد الإرهاب إلى قلب المدن الأوروبية وتأثيره على الرأي العام الذي له كلمته في التأثير على الحكومات.
لقد بات من المؤكد تمكن الحلف الدولي - العربي - الإسلامي من القضاء على «داعش» في العراق وسوريا بعد أشهر أو سنة. ولكن القضاء على الإرهاب الجديد لن يتحقق باقتلاع «داعش» و«القاعدة» من الأراضي السورية والعراقية عسكريا، بل باقتلاع هذا النوع من «الجهاد» من عقول الشبان الذين غسلت أدمغتهم بمفاهيم خاطئة له. وتلك مهمة أهم من التغلب عليهم عسكريا. وهي حرب فكرية وعقائدية تفرض تعاونا جديا وطويل الأمد بين المرجعيات الدينية والسياسية في الغرب والعالم الإسلامي.
إن نظرة عميقة إلى الشعارات المرفوعة في ساحات القتال تكشف أن أسباب العداوات بين المتقاتلين تعود إلى ذكريات أكثر منها إلى تضارب مصالح. وعالمنا اليوم ليس هو ذلك العالم الذي نشأت فيه الانقسامات السياسية التي تحولت إلى انقسامات دينية أو مذهبية. وإن الانطلاق في حروب تحت شعارات تعود إلى الوراء إنما هو نوع من العبث أو جلد الذات.