غالية قباني
كاتبة وروائية سورية مقيمة في بريطانيا من اسرة «الشرق الأوسط»
TT

التباكي على «السيادة» بعد ضرب مطار الشعيرات

سوريا‬ التي تغتصب منذ 6 سنوات وذاق سكانها كل أنواع الأسلحة ومختلف أشكال الموت، لم يصدم أهلها المناهضون لنظام الأسد، بالضربات الجوية الأميركية الجمعة الماضية، خصوصا أن الصواريخ، التي انطلقت من البحر المتوسط، وجهت لمطار يحتضن طائرات قصفت بالكيماوي الثلاثاء الماضي سكان بلدة خان شيخون الراقدة بين حضني مدينتين، إدلب وحلب، وهما مدينتان لم تسلما من أي قصف قاتل خلال سنوات.
أما الذين لم يحرك الموت بأشكاله، ضمائرهم، سواء أكان بالبراميل المتفجرة أو الغازات السامة مرورا بكل الأسلحة الأخرى، فقد جرح «كبرياءهم» استهداف مطار الشعيرات بريف حمص وتدمير طائرات الموت فيه، كون الضربة تمس «السيادة السورية»، وهو ما تحجج به الرئيس الروسي، تعليقاً على الضربة الأميركية. وعندما يقول رئيس دولة يحتل بلدا آخر بعقد إذعان، هذا الكلام، يتوجب علينا أن نعيد تعريف مفهوم «السيادة» التي داس عليها الرئيس بوتين‬ في سوريا مرات ومرات.
ليس على السوريين أن يشعروا بعقدة الذنب لضرب أي هدف عسكري تابع للنظام، بحجة أنه على الأرض السورية، واللطم على السيادة الوطنية (المهدورة منذ سنوات)، فهذا الشعب، ليس هو من جلب القوات الأجنبية إلى سوريا، بل طاغيته الذي بدا صاغرا ذليلا وهو يُستدعى إلى موسكو ليقف بين يدي بوتين، في سبتمبر (أيلول) 2015 حين تم إخباره أنه سيتدخل لصالحه في سوريا مقابل خدمات ومصالح لروسيا، تبين لاحقا، أنها قواعد عسكرية وصفقات أسلحة ومشاريع اقتصادية. وهناك الاستدعاء الأسوأ، لاحقا، عندما تم طلب الأسد إلى مركز حميميم القاعدة العسكرية في اللاذقية، ليلتقي وزير الدفاع الروسي الذي أملى عليه إملاءات أخرى، لم ينشر منها إلا إيماءات الموافقة من قبل الأسد، ويشكل الاستدعاءان، سابقة لم تحصل في العصر الحديث، بحسب علمي، إضافة لفقدان القرار السوري الوطني تماما خلال هذه السنوات.
هذا هو النموذج الروسي لـ«سيادة» أي دولة ورديفه الإيراني، اللذان لم يجرحا شعور المؤيدين في الداخل أو في المنطقة، أو بين صفوف الشق الموتور من يسار العالم.
الشعب السوري ليس هو من أدخل القوات الإيرانية والروسية والفصائل الطائفية المتطرفة بشيعتها ونصرتها وداعشيها، إلى سوريا، بل الرئيس الذي فضل أن يتنازل للمحتلين حتى تآكلت سيادته وسيادة سوريا، معا، فقط حتى لا يقدم للشعب أي «تنازلات» تحترم حقوقه الأساسية. وهي، في حال لو تمت، كان يمكن أن تبقيه متمتعا بسيادة يدعمها اعتراف غالبية شعبه به، على أن تنحصر حاضنته الشعبية بمجرد «موالين» متعصبين حصلوا على توصيف شعبي سماهم «الشبيحة».
جرب هذا النظام على مدى ست سنوات كل أنواع الأسلحة على السوريين في مناطق عوقب مدنيوها ودمرت بنيتها التحتية، لأن فصائل معارضة تشكلت فيها. ولسنوات، بات أطفال سوريا في تلك المناطق، معرضين لاحتمالات ثلاثة: الموت، الإصابة بعاهات، أو النزوح والتشرد والتعرض لكل أشكال الإهانة مع أهاليهم.
هل يعتقد عاقل بعدها، أن يتبقى للسوري بعد ذلك، أي شعور يجعله يتباهى بالسيادة الوطنية في بلد بات مسرحا للاستعراضات العسكرية من مختلف الجنسيات؟ هل هي ممكنة حقا، بعد أن قطع النظام كل حبل سري بين السوريين وأمكنتهم، تحت وقع الإذلال اليومي لإنسانيتهم، لذاكرتهم، ولأماكن ارتبطت بهويتهم وبعيشهم اليومي: مدارس، مستشفيات، بيوت عبادة، مخابز، مساكن؟
لا عجب أن لا يستهجن السوريون المناهضون للأسد وضحاياه، ضربة أميركية على مطار عسكري ينطلق منه طيارون يرمونهم بكل أشكال الفناء، فخلال أكثر من ست سنوات من الحرب السورية، تم قطع خطوط التماس مع مفاهيم الوطنية والمواطنة والكرامة، بل مع إنسانية السوري نفسها، تحت وقع القسوة الممنهجة.
تذكروا أنه عندما خرج السوريون في مظاهرات منتصف مارس (آذار) 2011 لم يحملوا سلاحا، بل طالبوا بالعدالة والحياة الكريمة، وبأن تخفف القبضة الأمنية التي تسوق السوريين إلى حتف يلتهم حياتهم وأحبتهم قبل أوانها في الشارع وفي المدرسة وأماكن العمل، وفي معتقلات يختفون فيها ويعذبون ويخرجون جثثا عظمية أو أرواحا مدمرة. أراد المتظاهرون في حينها، أن يسترجعوا كرامتهم التي دهست عليها بساطير العسكر والمخابرات. لم يطلبوا المستحيل لتلصق بهم تهمة الإرهاب.
سأستعير من التعليق الأخير لمندوب بريطانيا في مجلس الأمن، ماثيو رايكفروفت، في جلسة السبت الماضي التي طلبتها روسيا لمناقشة الرد الأميركي على استخدام الأسد للكيماوي، قوله: «لقد برهن الأسد هذه المرة في إدلب، قدرته على إعطاء معنى جديد للرعب».
نعم إنه الرعب الأسود غير القابل للوصف، الذي يقف حائلا بين أي إنسان وكرامته الوطنية بعد أن استبيحت كرامته الشخصية على أيدي جلاديه.