زين العابدين الركابي
كاتب سعوديّ
TT

هل تنشط روسيا في فراغ.. وأين الغرب عالي الصراخ؟

بدا الأمر - في أوكرانيا والقرم - وكأن «السيناريو» كان معدًّا من قبل - من جهة روسيا - في نطاق «دراسات الاحتمالات المتوقعة والاستعداد المبكر لها».
لم تكد أزمة أوكرانيا تنشأ حتى بدأت ملامح حملة تطالب باستقلال شبه جزيرة القرم:
1) قوات روسية تتحرك إلى شبه الجزيرة.
2) قوات «قرمية» محلية تتأهب وتتحرك للسيطرة على مفاصل الحكم والسلطة هناك.
3) الإعلان عن استفتاء شعبي عام يحدد مصير القرم وفق خيارات ثلاثة:
أ) الاستقلال التام
ب) أو حكم ذاتي موسع مقنن
ج) أو الانضمام إلى روسيا
4) يجري الاستفتاء وتنطق نتيجته بالانضمام إلى روسيا.
5) يوافق الرئيس الروسي (بوتين) على هذه النتيجة ويرحب بانضمام القرم إلى روسيا الاتحادية.
6) تصادق المحكمة الدستورية الروسية العليا على انضمام القرم إلى روسيا.
وبذلك يكون «سيناريو» ضم القرم إلى روسيا قد اكتمل، نظريا وتطبيقيا، مما يولد الاقتناع بأن هذا الأمر قد وضع من قبل في خانة «توقع الاحتمالات والاستعداد الناجز لمواجهتها».. بمعنى أنه إذا لعب الغرب في تخومنا الملاصقة (أوكرانيا) - يقول الروس - نفاجئه بتبدل (جيوسياسي) في القرم!!
ومن الملاحظ أن القادة الروس قد استعاروا أو استعملوا ذات شعارات ومقولات الغرب في الديمقراطية وحقوق الإنسان. فقد قالوا إن ميثاق الأمم المتحدة يعطي الشعوب الحق في تقرير مصيرها.. وها هو شعب القرم يمارس حقه المشروع هذا.. فعلامَ الضجة إذن؟.. وفي خطابه الأخير الملتهب قال فلاديمير بوتين: «إن للصبر حدودا، وإن الكيل قد فاض بروسيا بعد العديد من حالات التطاول على حقوقها، وإن الأحداث في أوكرانيا هي الخط الفاصل الذي لم تكن روسيا تستطيع التراجع عنده».. وقد سخر من الغرب عندما قال - في خطابه هذا: «إن ما يقولونه حول الاستفتاء بأنه لا يتسق مع مبادئ القانون الدولي.. حسنا لقد تذكروا أخيرا أن هناك قانونا دوليا يجب مراعاته.. ففي مشكلة صربيا أيد الغرب استقلال كوسوفو عن صربيا وقال قادته إن شعب كوسوفو استمد قانونية استفتائه من ضحايا التصفية الجسدية. وكأن القرم كان يجب عليه أن ينتظروا سقوط عشرات الألوف من الضحايا حتى يكون استفتاؤه قانونيا».
ثم بدا الأمر وكأن بوتين يتحرك في فراغ استراتيجي وسياسي، فها هو يصنع «واقعا جديدا» في القرم، ويعطل سياق الأحداث في أوكرانيا.
فأين الغرب؟
ليسمح لنا قادة الغرب بأن نقول لهم إن الروس لم يستفيدوا من «عبقرية» خاصة بهم، بقدر ما استفادوا من «أخطاء» الغرب وتناقضاته وتثاؤبه وترهله في هذه القضية وغيرها.
من الواضح أن استراتيجية روسيا تعتمد على «المبادأة» والحركة السريعة المحسوبة، على حين أن القيادات الغربية «متوحلة» في البطء، والاضطراب، والتردد، والتهديد الذي لا يتبعه عمل، أو يتبعه عمل غير متكافئ مع سرعة المخاطر وفداحتها.. ويبدو أن هذه ظاهرة عامة حكمت السلوك الغربي منذ سنوات.
فبسقوط الاتحاد السوفياتي: أتيحت للغرب فرصة عالمية واسعة جدا لـ«تجديد» سياساته وبُناه وعلاقاته الاقتصادية والسياسية والفكرية بالعالم، بيد أن هذا الغرب ضيع تلك الفرصة النادرة حيث ازدادت شؤون العالم ومشكلاته تعقيدا وركاما وسوء إدارة.. إن نشوتهم بسقوط الخصم العنيد قد خدّرت إرادتهم ونوّمت وعيهم وكأنهم أقنعوا أنفسهم بمقولة «هذا هو الخطر الأكبر قد زال، ولن يهمنا بعده أي خطر آخر، فلنذهب في نوم طويل ولذيذ»!!
اقترنت بهذه الظاهرة الغبية السلبية ظاهرة أخرى إيجابية لصالح روسيا الاتحادية: ظاهرة أن روسيا انتهزت فرصة سقوط الاتحاد السوفياتي لكي تقوم بمهام مركبة منها:
أ) التحرر من الإرث الثقيل للاتحاد السوفياتي، لا سيما إرث آيديولوجيته البديلة التي ضحت بمصالح بلدان الاتحاد السوفياتي في سبيل «وهم» اسمه الشيوعية.
ب) ترميم «البيت الروسي» بالإنتاج الكمي والنوعي وبتحسين الخدمات، وتطوير التعليم.
ج) مد الجسور مع دول العالم كافة، وبأساليب متحررة من الجلافة السوفياتية القديمة.
د) التصميم على بناء العلاقة مع العالم على أساس «المصلحة الوطنية» لا على أساس «الأسطورة الآيديولوجية».
هـ) الوفاء والجد في «دعم الحلفاء».. وقد تبدى هذا - مثلا - في دعم أوكرانيا، ومن قبل في دعم سوريا، وهو دعم يقابله خذلان غربي للحلفاء في البلدين، وإن بنسب متفاوتة!!
ولا يلام أحد على إصلاح أخطائه، والتحرر من أغلالها وبوائقها، ابتغاء تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح والمنافع. وإنما يلام الذين يصرون على البقاء في حفر أخطائهم، على الرغم من تزايد وجود مقتضيات التغيير والتجديد.
ولئن وجهنا اللوم الشديد المتتابع - من قبل - إلى الولايات المتحدة على الإصرار على «تفردها» في المسرح الدولي، وضربنا مثلا بجناية هذا التفرد على خطط مكافحة الإرهاب، فإننا بداهة لا نريد أن تتفرد روسيا بذات الشأن. فالسياسة الدولية ليست «ناديا للعشاق» تتغير فيه العواطف والميولات بقدر قوة العشق وجاذبيته. وإنما المطلوب إيجاد «توازن دولي» يحفظ للجميع مصالحهم، بما في ذلك مصالح الدول الأقل قوة في عصرنا وعالمنا.
هناك من يتساءل - في أميركا وخارجها: هل سينتصر التيار السياسي الأميركي الداعي لعزلة أميركا، بحجة أن الأعباء العالمية قد أثرت - سلبا - في فاعلية الولايات المتحدة، وأن عودة العافية مشروطة بتجرع جرعات من العزلة المخففة لهذه الأعباء الثقيلة؟
وإذا كان من حقنا إبداء رأينا في هذا الموضوع - بمعيار أن أميركا شريكة لنا في أكثر من ملف - قلنا: لا عودة لـ«سياسة الانكفاء على الذات في أميركا»، فتلك سياسة دحرها - إلى غير رجعة - التقدم العلمي والتقني في المواصلات والاتصالات، والتداخل الاقتصادي والتجاري والمالي والأمني والعسكري بين أميركا ودول العالم كله، وظهور ما يمكن تسميته بـ«الأمن العالمي الجماعي» تجاه قضايا عديدة تمس أمن الكوكب وسلامته ومسيره ومصيره.
ولقد صدرت عن الولايات المتحدة أصوات وطنية عاقلة توضح معالم السياسة الخارجية الجديدة - والمتوازنة - للولايات المتحدة، منذ سنوات، وبعد دراسة عميقة أجراها فريق سياسي رفيع المستوى من خلال مجلس العلاقات الخارجية الأميركي.. وخلاصة تلك الدراسة هي: «لا بد أن تسبق أي تعديل في السياسة الخارجية - بالنسبة للخليج - مشاورات مع القادة الأصدقاء، وإلا فإن التحرك المنفرد يتسبب في إثارة البلبلة وإضعاف الثقة في مصداقية سياستنا الخارجية».
ليعلم الأميركيون علم اليقين أن المنطقة لا تريد وكيلا «إقليميا»: لا وكيلا إسرائيليا، ولا وكيلا إيرانيا، ولا وكيلا من أي جنس. ودون الأميركان الميدان - وحده - مفتوح لبناء علاقة مباشرة محترمة مع كل طرف، دون الإضرار بالأطراف الأخرى. فليس من ضرورات العمل السياسي والدبلوماسي، ولا من مقتضياته، أنه عندما تصافح طرفا بيمناك، تفقأ عين طرف آخر بيسراك!!
هذه خواتيم للمقال، دعا إليها منطق الترابط بين الأحداث هنا وهناك، إذ الأحداث متشابهة، والأطراف متماثلة أو متطابقة.