هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

أنْ تكونَ أستاذًا..

أن تكون أستاذًا..
إنه شرف لا ينبغي لأحد أن يدعيه بيسر، لأنه عبء لا يُحمل إلا بصعوبة
لا أعرف لماذا تنتابني في الآونة الأخيرة ذكريات أساتذتي العظام الذين شكلوا ملامح روحي ووسعوا فضاءات عقلي.. لا فرق في ذلك بين الشيخ عبده مرعي الذي حفّظني كتاب الله والأستاذ حامد شاكر والأستاذ بدر عبد الشافي والأستاذ محمد حلمي أساتذتي في المرحلة الابتدائية. والدكتور سعد مصلوح والدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي والدكتور نصر أبو زيد والدكتور سيد البحراوي، والدكتور سليمان العطار، والدكتورة ثناء أنس الوجود والأستاذ سعيد عبد الفتاح في دراساتي العالية وما بعدها. مرورا بمجموعة من العظام الذين أَثْرُوا حياتي في مراحل التعليم المختلفة.. أذكرهم واحدًا واحدًا رغم مرور السنوات؛ ليس أولهم الأستاذ مجدي النجار مدرس اللغة العربية في المرحلة الإعدادية، ولا الأستاذ سعيد العدوي مدرس اللغة العربية في المرحلة الثانوية، وليس آخرهم مدرس التاريخ الأستاذ هارون عبد الله خليل، الذي درّسنا التاريخ العربي والمصري بروح حكاء عظيم لا تخطئه خفة الروح على ما يكتنف أسلوبه من رصانة لا تتوفر إلا لعلماء كبار، وقليل ما هم.. حتى مدرس التربية الرياضية الأستاذ أحمد عبد الفتاح الذي كنا ننظر إليه نظر المعجبين بنجوم السينما العالميين لوجاهته وانضباطه وطيبة قلبه..
الرابط بينهم جميعًا أنهم كانوا أساتذة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. أساتذة «ملو هدومهم» كما نقول في العامية المصرية.. لكنْ ثمة رابط أكثر وضوحا، وهو أن ماكينة الوطن لم تعد تنتج أمثالهم كثيرًا، لا في الإمكانية ولا في النزاهة..
الآن صار «العلماء» بلا روح، صاروا منزوعي الدسم، بل ربما دعيت ذات مرة لتفض خلافًا بين أستاذ وتلميذه على «سبوبة»، لقد رأيت بأم رأسي (أساتذة) يشتبكون مع تلامذتهم، وأساتذة يتزلفون لتلامذتهم.. أي علماء هؤلاء وأي علم يحملونه، علماء لا يملكون من العلم إلا حرفًا قبل الاسم أو برنامجًا تلفزيونيًا. لا تسلني إذن عن المنجز العلمي ولا ترتيب الجامعات العربية بين جامعات العالم، ولا كم الدراسات العلمية التي نشرها «علماء العالم العربي» في الدوريات العالمية وبأي لغة نشروا.. لأن همّ أمثال هؤلاء ليس العلم بل التجارة. لا يضعون أعينهم على الطالب بل على المموّل..
ليسوا من قراء ابن سيّار النظّام حين قال:
«العلم لا يعطيك بعضَه إلا إذا أعطيتَه كلَّك..
فإن أنت أعطيتَه كلَّك
فأنت من إعطائه لك البعضَ على خطر»..
لم يسمعوا عن محمد عبده الذي كان جمال الأفغاني يمسكه من لحيته ويقول له: «خبرني بالله عليك، ابن أي ملك أنت؟!».. من شدة اعتداد الإمام بنفسه وعدم تكالبه على الصغائر..
لم يتعلموا شيئا من محمود علي مكي، الذي وصفه نصر حامد أبو زيد بـ«العالم المتواضع» الذي «يعلمك، ويشعرك - لفرط تواضعه - أنه يتعلم منك»..
الآن ليس أمامنا - في كثير من الحالات - إلا ما تعف ألسنتنا عن ذكره.. وأنفسنا عن تذكره..
والله إننا لعلى خطر عظيم..