شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

هل نعتذر؟

في الأيام الأولى بعد وصولي إلى لندن، وكان ذلك في ذروة أيام العنف الطائفي في العراق عام 2006، كنت جالسة في مترو الأنفاق أقرأ كتابا عندما سمعت رجلا إنجليزيا جالسا إلى جواري يسألني من أي بلد أنا. يبدو أن الكتاب باللغة العربية أثار فضوله. أجبته بسرعة: «من العراق»، وطمست رأسي في الكتاب فورا كي أقطع عليه الطريق أمام أسئلة أخرى، خصوصا في تلك الأيام عندما كانت تطورات العراق مادة دسمة للنقاش.
كان القطار على وشك التوقف في إحدى المحطات، ولدهشتي وحرجي وجدت الرجل يقف سريعا وهو يهم بمغادرة القطار قائلا بأعلى صوته كي يسمعه جميع الحاضرين: «آسف لما فعلته بريطانيا في بلدك»، وتابع بحماس: «آسف حقا باسمي وباسم الشعب البريطاني وبريطانيا لما فعلناه ببلدك.. وأرجو أن تغفري لنا»، قبل أن يغادر عربة القطار ويختفي بين زحام البشر.
عدت إلى الكتاب فورا شاعرة بالحرج، بينما عيون الآخرين ترمقني بفضول. إلا أن المشهد كله استوقفني كثيرا وتركني أتساءل: لماذا يبادر رجل إنجليزي بالاعتذار إلى عراقية لا يعرفها، جاءت إلى بلاده هاربة من ويلات العنف الطائفي تبحث عن فرصة للعمل وملجأ آمن؟ رجل لا صلة له بقرار الحرب، بل بالعكس فإن العاصمة البريطانية شهدت قبل الغزو في 2003 أكبر مظاهرة احتجاج في تاريخها ضد التدخل العسكري في العراق.
الرجل اعتذر باسمه وباسم بلده عن قرار حكومته آنذاك، استغل فرصة لقاء عابر بعراقية في قطار ليعلن براءته أمام الجميع من جملة أفعال حكومة توني بلير. الرجل تحلى بالمسؤولية واعتبر نفسه جزءا من بلده ومن قرار حكومته ولم يقل: «لا دخل لي» بالكوارث التي حلت بالعراق والعراقيين بعد الغزو.
لماذا حالنا مختلف عن هذه الشعوب؟ ولماذا نجهل تماما ثقافة الاعتذار؟ أنسينا أن الاعتذار الصادق يزيل الضغينة والأحقاد؟ بل وكما يقولون فإن الاعتراف بالخطأ فضيلة.
ما يضير الرئيس السوري بشار الأسد، مثلا، لو اعتذر لأهالي درعا، التي منها اندلعت الانتفاضة السورية في مارس (آذار) 2011 عندما اعتقل وعذب عددا من أولادها لمجرد أنهم كتبوا على حائط مدرستهم «اجاك الدور يا دكتور»، وامتص غضبهم بإقالة مسؤول أو اثنين، وحاجج بأن رفض إطلاق سراحهم كان انفراديا وأن لا صلة له بما جرى؟ لو اعتذر الأسد أما كان جنب نفسه ونظامه كل ما حدث وما يحدث؟ ولماذا لا يعتبر عمر البشير من مصير الحكام الذين سبقوه إلى مقصلة الربيع العربي ويعتذر الآن للسودانيين قبل فوات الأوان؟
لماذا لم يعتذر نظام صدام حسين للعراقيين ولم يقر بارتكاب ولو خطيئة واحدة ضدهم؟ طوال محاكمة أركان النظام كانوا يكررون كليشيهات جاهزة «كنا نعمل لصالح الشعب العراقي» أو إنها «كانت أوامر» أو «لا علم لنا بالأمر». لم أسمع مسؤولا واحدا حاسبه ضميره وقال بشجاعة: «أعتذر للشعب العراقي عما بدر مني ومن نظامي»، باستثناء وطبان الحسن، الأخ غير الشقيق لصدام، الذي اعتذر في نهاية محاكمته في إحدى القضايا قبل سنوات قلائل. وللأسف، لم يستوقف ذلك الاعتذار أحدا من العراقيين، ربما لأنهم لم يألفوا هذا في مسؤوليهم.
ولماذا نطلب فقط من المسؤولين الاعتذار؟ لماذا لا نعلن نحن أيضا كشعوب أسفنا للآخرين عما فعلته حكوماتنا وأنظمتنا؟ لسنا قصرا كي نلقي باللائمة دوما على الآخرين. لا أعرف عراقيا عربيا واحدا، مثقفا كان أم بسيطا، اعتذر في السر أو في العلن لمواطن كردي عن أحداث «حملة الأنفال» أو «الكيماوي»؟ ولا أعرف أي عراقي اعتذر لكويتي عن الغزو العراقي؟ بل إننا متفقون دائما على أن النظام وحده هو المسؤول، وكأننا لا نملك حرية التعبير عن الرأي حتى بعد زوال النظام.
حاولت أن أقلد شجاعة هذا المواطن الإنجليزي بالاعتذار لكويتيين التقيتهم مصادفة في لندن، لكن الكلمات في كل مرة تختنق في حلقي، ويخونني التعبير، لأجد نفسي كل مرة، كبقية أبناء جلدتي أتذرع بشتى الحجج الواهية، مثل أن القضية طويت منذ زمن ولا داعي لتقليب أوراق الماضي، أو أننا دفعنا مسبقا ثمنا باهظا للغزو، أو طبعا الحجة الأزلية التي تدفع عنا حرج الاعتذار، ألا وهي أن النظام وحده هو المسؤول ولا دخل لي في ما جرى.