في وقت سابق من هذا الأسبوع، أجرى الرئيس الصيني شي جينبينغ مكالمة هاتفية مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للمرة الأولى منذ الغزو الروسي العام الماضي، ولكن هل عرْض شي من أجل السلام في كييف يبدو حقيقياً؟ فلديه الكثير من الأسباب التي تجعله يأمل بصدق أن تنتهي الحرب بين أوكرانيا وروسيا قريباً، فهل من المحتمل أن تحقق مساعيه هذه الهدف المرجو منها؟ الإجابة هي لا، ما لم تشهد الجغرافيا السياسية تغييراً.
وكان الرئيس الصيني قد أصدر قبل شهرين «خطة سلام» مكونة من 12 نقطة، ووجد زيلينسكي أنها مثيرة للاهتمام بما يكفي لطلب إجراء محادثة معه، ويوم الأربعاء، مضى شي قدماً في الأمر، وأجرى الرئيسان مكالمة هاتفية لمدة ساعة وصفها الرئيس الأوكراني لاحقاً بأنها «طويلة وذات مغزى»، وأكدت القراءات الصينية الخاصة بالمكالمة على الحاجة إلى «تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية»، وبعد ذلك عيَّن زيلينسكي سفيراً في بكين، وأرسل شي مبعوثه للشؤون الأوروبية إلى كييف.
فما الذي يحدث؟ ولماذا يحدث الآن؟ صحيح أن شي لم يوضح أسبابه بشكل علني، لكن يمكن التوصل لبعض التفسيرات المنطقية من خلال النظر في الأحداث والسياقات الأخيرة.
أولاً، يجب على الرئيس الصيني أن يدرك أن التحالف الذي أقامه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في عام 2022، قبل أقل من شهر من غزو الأخير لأوكرانيا، كان إلى حد ما خطأً استراتيجياً، حيث تحدث الزعيمان في ذلك الوقت عن شراكة «بلا حدود»، لكن شي وضع الكثير من القيود منذ ذلك الحين.
والجدير بالذكر أنه على الرغم من استمرار شي في منح موسكو الكثير من الأموال والمعدات التقنية، فإنه لم يورد أي أسلحة للحرب، كما أنه تابع الهجوم الأخير للجيش الروسي الذي فشل في تحريك خطوط القتال، ولا شك أنه قرأ التقارير التي تفيد بأن الهجوم الأوكراني المقبل، الذي من المرجح أن يبدأ الشهر المقبل، مع وصول طائرات محملة بالأسلحة الغربية الجديدة، بما في ذلك الدبابات والمركبات المدرعة الأخرى، يمكن أن يؤدي لاستعادة مساحات كبيرة من الأراضي، وفي حال حدوث ذلك، فإن موقف بوتين، العسكري والسياسي، على حدٍ سواء، قد يواجه تراجعاً سريعاً، وهو ما قد ينطبق على الرئيس الصيني أيضاً بالتبعية.
وثانياً، أنه في يوم الاثنين الماضي، تعرضت حملة شي الدبلوماسية الكبيرة الأخرى، لتحقيق غزوات سياسية واقتصادية في أوروبا، وذلك من أجل بكين نفسها، وكذلك من أجل قطع روابط القارة عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة لتأثر كبير، وقد حدث ذلك عندما قال السفير الصيني لدى فرنسا لو شاي، في مقابلة تلفزيونية، إن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، التي حصلت على استقلالها في عام 1991، ليست دولاً ذات سيادة بموجب القانون الدولي، وتشمل هذه الدول إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، والأهم من ذلك، أوكرانيا، فمن الواضح أن لو، وهو أحد أكثر المتشددين في السلك الدبلوماسي الصيني، لم يفهم الرسالة التي تفيد بأن الرئيس الصيني يرغب في تصوير نفسه وسيطاً محتملاً بين روسيا وأوكرانيا.
لكن الدعم الاقتصادي الذي قدمه الرئيس الصيني لروسيا، مع أنه لم يُدِن غزو بوتين، أضعف بالفعل مصداقية هذه الصورة، مثله مثل تصريح لو، الذي يبدو متطرفاً حتى بمعايير بكين نفسها، إذ سرعان ما تبرأ المتحدثون الصينيون من هذا التصريح، وربما ليس من قبيل المصادفة أنه بعد يومين فقط أجرى شي مكالمته الهاتفية مع زيلينسكي، والتي أكد فيها أنه بغض النظر عن موقفه تجاه بوتين، فإنه يعد أوكرانيا دولة ذات سيادة بالفعل.
ولطالما أراد الرئيس الأوكراني التواصل بشكل مباشر مع بكين، وذلك على أمل تفكيك تحالف شي مع موسكو، ويُقال: إنه متفائل بشأن المحادثة الأخيرة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن السلام قد بات في متناول اليد.
وكما قال زيلينسكي سابقاً فقد أكد أن أي وقف لإطلاق النار يجب أن يسبقه انسحاب عسكري روسي من جميع الأراضي الأوكرانية المحتلة، واستعادة حدود عام 1991 بين البلدين، وهذا لا يعني إعادة منطقة دونباس الشرقية في أوكرانيا فحسب، ولكن إعادة شبه جزيرة القرم أيضاً، التي ضمتها روسيا في عام 2014.
ومهما حدث في ساحة المعركة في الأشهر القليلة المقبلة، فإن المسؤولين الأميركيين يشككون في أن بوتين سيتخلى عن شبه جزيرة القرم، التي تضم أسطول البحرية الروسية في البحر الأسود من بين كيانات أخرى، (قام رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف بتسليم شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا كهدية في عام 1954. لكن الأمر كان رمزياً، حيث كان الاتحاد السوفياتي هو الكيان السياسي الوحيد في ذلك الوقت، وكان الكثير من سكان القرم يعدون أنفسهم روسيين، على الأقل حتى وقت قريب، حتى أنه عندما احتلت القوات الروسية شبه الجزيرة في عام 2014 فإنها فعلت ذلك من دون إطلاق رصاصة واحدة).
وقد يكون إصرار زيلينسكي على استعادة شبه جزيرة القرم بمثابة موقف تفاوضي، وفي كلتا الحالتين، فإنه سيكون من المنطقي تماماً أن يطلب انسحاباً روسياً من جميع الأراضي الأوكرانية الأخرى، ولكن وقف إطلاق النار الذي يترك قوات الجانبين في مواقعها الحالية سيمنح الروس فرصة للراحة، وإعادة تجميع صفوفهم، وإعادة تسليحهم، وحشد المزيد من القوات للجولة التالية من القتال.
إذن هناك أسئلة مهمة يجب طرحها: هل سينسحب بوتين من أي أرض جرى الاستيلاء عليها؟ هل سيفعل ذلك إذا سُمح له بالاحتفاظ بشبه جزيرة القرم، وذلك ربما بعد إجراء استفتاء حر ونزيه بشكل حقيقي (والذي حتى الآن قد تفوز به موسكو)؟ وهل سيسمح زيلينسكي بحدوث ذلك من دون أن يضغط للقتال أولاً؟
وأخيراً، السؤال الأهم هو مَن الذي سيتفاوض ويفرض هذا الترتيب؟ فلا توجد قوة أعلى لديها النفوذ لإنجاح هذا الأمر، وفي حال عملت الولايات المتحدة والصين معاً، أي أن تضغط واشنطن على أوكرانيا وتوفر لها ضمانات أمنية، فيما تفعل بكين الشيء نفسه مع روسيا، فقد تكون هناك فرصة لإنجاز ذلك، ولكن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين باتت في حالة يُرثى لها هذه الأيام، مع وجود فرصة ضئيلة للتعافي في أي وقت قريب، ربما باستثناء بعض القضايا الهامشية مثل الصفقات التجارية.
وحتى لو تحسنت العلاقات بشكل سريع، فإنه ليس هناك ما يضمن أن بوتين أو زيلينسكي سيوافقان على أي صفقة من هذا القبيل، وذلك في ظل اعتقاد كل منهما أن لديه فرصة للفوز بالحرب، كما أنه لا يزال لدى كل منهما بعض الأساس للاعتقاد بأنهما قادران على ذلك، فلا يزال بإمكان بوتين تجنيد المزيد من الرجال، حتى لو كان ذلك فقط من أجل امتصاص الذخيرة الأوكرانية (لم يشهد العالم مشهداً أكثر رعباً يتمثل في استخدام القوات كوقود للمدافع منذ الحرب العالمية الأولى)، كما أن زيلينسكي على وشك تلقي المزيد من الأسلحة الغربية، بما في ذلك المركبات المدرعة، التي يمكن أن تدفع بالهجوم المضاد القادم إلى تحقيق بعض النجاح.
وقد تكون الأشهر القليلة المقبلة حاسمة، ففي حال فشل هجوم أوكرانيا المضاد في اختراق الخطوط الدفاعية لروسيا، وإذا بدا أن الحرب تتجه نحو طريق مسدودة دائمة من المذابح والدمار، فقد تتوقف الدول الغربية عن إرسال المزيد من المساعدات العسكرية، وتضغط من أجل إيجاد حل دبلوماسي، وهذا هو أمل بوتين في هذه المرحلة.
وفي حال اخترقت أوكرانيا الحدود، وبدت على وشك الفوز، من خلال تعريف معقول للمصطلح، فإن قبضة بوتين على السلطة يمكن أن تنهار، وفي وقت ما قبل تلك اللحظة، قد يواجه الرئيس الصيني تحديه الخاص المتمثل في تغيير اتجاه تأييده للتخلص من عزلته، وهذا هو الكابوس الأكثر رعباً بالنسبة للرئيس الروسي، وكذلك نظيره الصيني، وهو ما قد يفسر سبب محاولة الأخير إنهاء الحرب قبل أن تدخل مرحلتها التالية غير المؤكدة، ولكن المشكلة هي أنه ربما يكون الرئيس الصيني قد تحرك بعد فوات الأوان.
* خدمة «نيويورك تايمز»
7:49 دقيقه
TT
لماذا اتصل الرئيس الصيني بالأوكراني بهذا الشكل المفاجئ؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة