هل صارت الأزمة اللبنانية عصية على الحل؟ البلد الذي لا يتغير فيه شيء رغم انفجار مرفأ عاصمته، والمظاهرات في شوارع مدنه للمطالبة بإصلاح سياسي، وتغيير طبقته الحاكمة. وتهدد الحرب الأهلية بالعودة من الشوارع والأحياء التي انطلقت منها الشرارة السابقة. بلد يقاوم زعماؤه بقدرة فائقة واستثنائية كلَّ محاولة للإصلاح، كيف يمكن له أن يخرج من هذا النفق المظلم الذي يجد مواطنوه أنفسهم فيه؟ كيف لأزماته المتراكمة أن تجد حلاً؟
كل أزمة تدفن سابقتها في النسيان. كثيرون ظنوا أن «انتفاضة 17 تشرين»، التي مرت ذكراها الثانية منذ أيام، لا بد أن تشكل انقلاباً في الوعي السياسي، وصحوة ضمير لدى المسؤولين. لم يحصل شيء من هذا. وجد السياسيون علاجاً ضد المظاهرات، هو تفكيك المتظاهرين إلى قبائل مذهبية وطائفية. صار الشارع شوارع، وانغلقت المدن والقرى بعضها على بعض، وأصبح همّ كل زعيم هو دفع «جماعته» للاحتماء بمظلته الطائفية، وإقناعهم بأنها سبيلهم الوحيد للحفاظ على «هويتهم».
إنه لبنان القرن الحادي والعشرين. بعد تلك المظاهرات بأشهر معدودة وقع الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت. أكثر من مائتي قتيل والجرحى بالآلاف. عشرات آلاف المنازل المهدّمة والأحياء المدمّرة. ارتفعت أصوات أهالي الضحايا وسائر المتضررين تطالب بتحقيق، مجرد تحقيق: من أين جاءت هذه الأطنان من الأمونيوم؟ لماذا أُبقي عليها كل هذه السنوات في مرفأ حافل بكل الأجهزة الأمنية التي تدرك خطورة إبقاء هذه المواد قرب الأحياء السكنية؟ ظهر من الجهاز القضائي رجل ظن أن مهمته الوصول إلى أجوبة عن أسئلة هؤلاء المساكين. تعرفون النتيجة. ممنوع أن يُساءل أحد من المسؤولين، سياسياً كان أم أمنياً. من أنتم لتحققوا معنا؟ نحن الدولة وأنتم الشعب. اخرسوا. وانتهى الكلام.
ثم جاءت الهزة الأخيرة في منطقتي الشياح وعين الرمانة، والمرتبطة مباشرةً بأزمة التحقيق في مرفأ بيروت.
وهناك أسباب لهذا الارتباط. فالجهة التي نظّمت المظاهرة للمطالبة بتغيير المحقق العدلي هي الجهة التي وضعت يدها على ملف التحقيق وقررت إقامة خصومة شخصية مباشرة مع المحقق، معتبرةً أن التحقيق يستهدفها، وتتمثل خصوصاً بـ«حزب الله» وحركة «أمل».
بلغت الاتهامات مستويات عالية السقف. صار القاضي طارق البيطار متهماً بالعمالة للأميركيين وصارت المواقع المختلفة تنقل أخباراً عن لقاءاته مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا ومع البطريرك بشارة الراعي! وكل ذلك بعيداً عن أي إثبات، وفي إطار التحريض والحملات المسمومة على القنوات وفي الصحف، من دون أي ضابط أخلاقي أو قانوني. وتعدّت الاتهامات الجانب السياسي إلى المذهبي. فصار القاضي المسيحي متهَماً باستهداف المتهمين، ومن بينهم وزيران من الطائفة الشيعية. وبلغ الأمر حد خلق انشقاق بين أهالي ضحايا الانفجار على خلفية مذهبية كذلك. وفي جو محتقن من هذا المستوى كان متوقعاً أن تنفلت الأمور وأن يحصل ما حصل في منطقة تكفي أي شرارة غير مسؤولة لإعادة إشعال خطوط التماس القديمة التي تفصل بين أحيائها.
«استهداف المقاومة» هو السلاح الفعال الذي يستخدمه «حزب الله» في حملاته السياسية ضد خصومه في الداخل، وهو سلاح تعجز الدولة في لبنان عن التعامل معه إلا بالتجاوب والخنوع. حصل الأمر نفسه مع «انتفاضة تشرين» 2019 التي تم تصويرها على أنها تهدف إلى إحداث انقلاب في التوازنات السياسية ضد مصلحة «حزب الله». ظهرت أيضاً اتهامات بتمويل السفارات الغربية (الأميركية خصوصاً والعياذ بالله) للمتظاهرين ولمنظمات المجتمع المدني. وخرج الأمين العام للحزب يهدد بأن الانقلاب على السلطة ممنوع والتعرض لرئيس الجمهورية خط أحمر. وصار أي مطلب بالتغيير يوضع تحت عنوان استهداف «بيئة حزب الله»، وينتهي الأمر بالقضاء على التحرك وبقاء الحال على ما هو عليه، أي بقاء هيمنة الحزب، مباشرةً أو عن طريق التهديد، على معظم المؤسسات السياسية والأمنية، وصولاً إلى ترويع الجسم القضائي، كما يحصل اليوم.
وحيث لا تنجح الهيمنة والتهديد يحصل التعطيل. وهناك أمثلة كثيرة سابقة يمكن استحضارها، أبرزها تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2016 لفرض مجيء الرئيس الذي اختاره «حزب الله» لهذا المنصب. أما المثال الحالي للتعطيل فهو شلّ اجتماعات مجلس الوزراء، رغم الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة، للضغط لإقالة أو «قبع» القاضي البيطار.
وكي لا يقتصر الكلام على لبنان، فإن ما يقوم به «حزب الله» في هذا البلد ليس استثناءً في سلوك القوى الحليفة لإيران، التي ترفض الاعتراف بأي قرار سياسي أو قضائي، وبنتائج أي عملية انتخابية إذا جاءت في غير مصلحتها، وتستخدم «فائض القوة» الذي في حوزتها، وهو فائض خارج قوة الدولة، لفرض الخيارات التي تخدم مصالحها.
في العراق تخوض القوى الحليفة لإيران، تحت لواء «الحشد الشعبي»، معركة ضد رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بعد نتائج الانتخابات الأخيرة التي لم تحقق فيها الفوز الذي كانت تتوقعه، وجاءت معظم الأصوات الشيعية لمصلحة مقتدى الصدر وتحالف «سائرون». ولأن النتيجة كذلك فهي «مزورة» بالتأكيد. «كتائب حزب الله» في العراق دعت إلى «محاكمة الكاظمي وتصعيد الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه». واتهمت رئيس الحكومة بـ«التواطؤ مع الأعداء لتزوير الانتخابات». ومتحدث باسمها قال إن الانتخابات كانت «أكبر عملية احتيال وخداع للشعب العراقي». ونُصبت خيم الاحتجاج حول المنطقة الخضراء في بغداد، كما نُصبت سابقاً ضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة حول السراي الحكومي في بيروت. والنتيجة أزمة حُكم سوف تطول إلى أن يقتنع الخاسرون بالنتيجة أو ترضخ القوى الأخرى وتوافق على تمثيلهم في الحكومة الجديدة.
في العراق كما في لبنان، يواجه المجتمع أحد خيارين: الخضوع أمام «فائض القوة» أو المواجهة وفرض هيبة الدولة. ويبدو أن مصطفى الكاظمي فضّل الخيار الثاني. أما لبنان فلا يملك سوى خيار الخنوع... حتى إشعار آخر.
15:2 دقيقه
TT
لبنان والعراق في وجه «فائض القوة»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة