لا شك أن ما مرت به مصر عبر تاريخها الطويل جعل منها أمة مختلفة عن غيرها من بلاد العالم بصورة كبيرة. وانعكس ذلك بشكل كبير للغاية على مرحلتها الانتقالية الحالية، ليجعل منها واحدة من أصعب مراحل عنق الزجاجة التي دخلت فيها مصر منذ نحو 60 عاما.. ولم تخرج إلى الآن.
وتوضح كتب التاريخ أنه منذ العصور القديمة، وحتى خلال عصور حكم الأسر الفرعونية القوية التي صنعت مجد مصر القديم، توافدت على البلاد شتى حضارات الأرض؛ سواء عبر الاحتلال العسكري أو الغزو الفكري أو حتى الارتباط الديموغرافي.. من هكسوس ونوبيين وآشوريين وبابليين وفينيقيين وإغريق وبيزنطيين ورومان وعرب وبربر وفرنسيين وبريطانيين.
ورغم احتفاظ مصر بشخصيتها عبر هذه العصور، وتمكنها من هضم كل من غزاها في بوتقتها بدلا من أن يحتويها هو، فإن ذلك أثر بشكل أو آخر في إكساب الشخصية المصرية بعدا مختلفا، وهو الحيطة والحذر من الآخر المختلف، بحسب ما ذهب إليه كثير من خبراء علوم الاجتماع والسيكولوجي.
وفي العصر الحديث؛ ومنذ تأسيس الجمهورية، توالى على مصر حكام ينتمون إلى المؤسسة العسكرية حصرا على مدار 60 عاما. ورغم مزايا تلك الفترة بالنسبة للمصريين الذين شعروا أخيرا باستقلالية فقدوها مئات السنين، فإن القبضة العسكرية وما شهدته العهود المختلفة منذ ثورة يوليو (تموز) 1952 من تقويض مبالغ للحريات، كثف من تقوقع المصريين وانكفائهم على البحث عن الرزق، بدلا من البحث عن الحقوق والحريات.
وأصبحت جمل على غرار «خليك في حالك»، «امشي جنب الحيط»، أو حتى «بلاش كلام في السياسة» - نوعا من الخبز اليومي الذي يقتاته الشعب.. لدرجة أن أول من اندهش من قيام ثورة شعبية في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 كان هو قطاعا واسعا من الشعب المصري ذاته.. والمعروف بشكل أكبر باسم «حزب الكنبة»، ذلك الذي يفضل الارتكان إلى أمان ودفء أريكته - مهما كانت بالية أو ربما مفعمة بالحشرات - بدلا من الدخول في دوامات ومغامرات الشارع المتقلبة.
وبعد 25 يناير، وشقيقتها 30 يونيو (حزيران).. نكتشف أن المصريين انقسموا إلى عدد من الفئات؛ أغلبها موغل في التقوقع على ذاته - إذا لم يكن معزولا في صومعته تماما عن باقي الفئات. ويقول مراقبون ومحللون إن الأقسام شملت أتباع التيارات الإسلامية المتشددة الذين لا يرون غيرهم صاحب حق. كما أن هناك تيارات ليبرالية أيضا لا ترى في غيرها من بديل. وهنالك أنصار الدولة العميقة أو من يطلق عليهم إجمالا وتجاوزا لقب «الفلول»، والذين ينظرون إلى الدولة الناهضة بعين غير مقتنعة ولسان حالهم يقول: «كان مبارك ونظامه هو الأصلح».
وهناك شباب ثائر.. لا يريد أن يناقش أو يجادل.. بل بدأ بعضه في تخوين البعض الآخر وصولا إلى اتهامه بالعمالة وتلقي المقابل من جهات خارجية كانت أو داخلية.. وهناك المؤسسات وأغلبها نخرة بفعل فساد سنين إضافة إلى محاولة عام من الأخونة.. وهناك إعلام أغلبه لا يفقه معنى الحياد، وقضاء يواجه اتهامات بـ«التسيس» من شتى الجهات.
وهناك في جهاز الشرطة من تربى في العصر الأمني «المباركي» على «الغشم» و«العنف» و«القمع»، وإصلاحه يتطلب عملية صعبة؛ إن لم تكن مستحيلة حاليا، في ظل إرهاب وخلل أمني يضرب البلاد.
كما أن هناك جيشا، هو المؤسسة الوطنية والوحيدة القوية، لكنه يواجه تشكيكا من قطاع كبير في توجهاته.. إذ إن 60 عاما من الحكم العسكري بزي مدني بتبعاتها غير ذات بعيدة عن أذهان المصريين، نتمنى أن يصححها الجيش.
ووسط كل هذه الفئات المتقوقعة التي يتحزب كل منها مشككا في الآخر، والتي تحول كل منها إلى فاشية قائمة بذاتها.. وبينما تستعد مصر لكتابة دستورها الذي يتطلب - كخطوة أولى حتمية - توافقا عميقا بين مختلف شرائح المجتمع، وتراضيا بـ«تنازلات» و«موائمات» لحساب الأمة بأكثر من الفردية.. يقف رجل الشارع تائها، لا يجد من ملاذ، ولا يكاد يقتنع بمبرر أي فصيل.
ووسط أزمة من الثقة.. يتعالى همس من الشارع مجددا. وتتردد عبارات غابت لفترة عن الآذان، تقول في صوت متصاعد: «خليك في حالك»، «امشي جنب الحيط»، وربما «بلاش كلام في السياسة».
8:11 دقيقه
TT
مصر بين «فاشيات» و«أزمات الثقة»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة