علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

التعصب والتساهل

المقتطف السابع: «وقال محمد رشيد رضا في مجلة المنار (المجلد الأول شوال 1315هـ، فبراير/شباط ــ مارس/آذار 1898م) في مقال بعنوان (الدين والسياسة وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم): إنَّ المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلتره وهامة حزب الأحرار كان قسيساً، ومن أشد الخلق تديناً، لا بل تعصباً».
التعليق:
لم يكن الدكتور حمزة بن قبلان المزيني موفقاً في الاستشهاد بهذا المقتطف. فهذا المقتطف لا صلة له بمسألة تتبّع العبارة المنسوبة إلى غلادستون بأي وجه من الوجوه. فرشيد رضا في هذا المقتطف ــ على خلاف ما فهم الدكتور حمزة ــ يمدح غلادستون ولا يذمُّه. كما مدح قبله ملك إنجلترا، فقال عنه «إن ملك انكلتره الراقية العظيمة بل العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية». وكما مدح قبله إمبراطور ألمانيا، فقال عنه: «إن إمبراطور ألمانيا هو رئيس الكنيسة اللوثرية»، وكما مدح قبله إمبراطور النمسا فقال عنه «كان على رأس مملكة راقية جداً. وكان يخاطب بذي الجلالة الرسولية، إشعاراً بصفته الدينية. وكما مدح بعده دولة فرنسا، فقال عنها «إن دولة فرنسة التي يقال إنها دولة لا دينية تنعت نفسها بحامية النصارى في المشرق. وإن غمبتا، ركن الجمهورية والسياسة اللادينية، كان قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً: عداوة رجال الدين ليست من بضائع التصدير. وإنه وإن لم يكن الدين رابطة، فأي رابطة بين فرنسا والموارنة، وهم ليسوا بلاتين ولا بأوروبيين، بل هم آراميون ساميون أبناء عم العرب. وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم. عبثاً تقول له ذلك، لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح، وأوروبا تركت الدين».
ها أنذا أوردت السياق الكامل الذي استشهد الدكتور حمزة بمقتطف منه، وقرأه على نحو خاطئ. فلعل الصورة تتَّضح للقارئ وينجلي له المقصود.
إنَّ رشيد رضا في هذا المقتطف ــ وهو مثال من أمثلة كما مرَّ بنا ــ يخاطب العلمانيين العرب والعلمانيين الترك (هم عنده ملاحدة المتفرنجين!) في مقاله، الذين يرفضون خلط الدين بالسياسة، تأسياً بالتجربة الأوروبية، قائلاً – على سبيل الإلزام - : إنَّ السيد غلادستون غدا رئيس وزراء انكلترا، ورأس حزب الليبراليين، رغم أنَّه كان قسيساً.
وللتوضيح: غلادستون لم يكن يوماً ما قسيساً، وإنما هو - فقط - فكّر أن يكون كذلك، لكنه عندما دخل عالم السياسة لم يعد يهتم مطلقاً بالتبتل للمسيح، رغم أنه كان متديناً بوضوح طيلة حياته.
وللتوضيح أيضاً: غمبتا (هكذا يرسم اسمه في عصر النهضة العربية) هو ليون ميشيل غامبيتا (1838 – 1882) محام وخطيب ورجل دولة فرنسي بارز في فترة الحرب الفرنسية - الروسية. وكان المشرف على الدفاع عن بلاده في أثناء هذه الحرب حينما كان وزير الداخلية فيها. رأس مجلس النواب ما بين عامي 1879 و1881. وما بين العام الأخير وعام 1882، كان رئيساً لمجلس الوزراء ووزير الخارجية. يعتبر أبو الجمهورية الفرنسية الثالثة. هو من أصل إيطالي. فلقد ارتحل جده في بداية القرن التاسع عشر إلى فرنسا لشدة عوزه طلباً للرزق.
أما جملته التي قال رشيد رضا عنها إنها ذهبت مثلاً، وهي: عداوة رجال الدين ليست من بضائع التصدير، فأحسبها مثالاً غير متَّسق مع الأمثلة الأخرى في محاجته للعلمانيين العرب والعلمانيين الأتراك. لأنَّ المقصود بتلك الجملة أن عداوة رجال الدين أو معاداة طبقة الإكليروس شأن سياسي وآيديولوجي خاص بالجمهورية الفرنسية، وهي بضاعة لا تصدّرها إلى مستعمراتها وإلى مناطق نفوذها الروحي والثقافي.
ولعله من المعروف أنَّ سبب معاداة طبقة الإكليروس هو تدخلات رجال الدين في شؤون الدولة، في فرنسا ومناهضتهم للنظام الجمهوري الجديد.
فالمثال الذي أتى رشيد رضا به، هو مثال يؤتى به للتدليل على تناقض علمانية الدولة الفرنسية في سياستها الخارجية، مع نمطها الجذري الصلب في العلمنة.
ومثاله الأول، وهو أنَّ دولة فرنسا التي يقال إنَّها دولة لا دينية تنعت نفسها بحامية النصارى في المشرق، هو الآخر شاهد عليها وليس شاهداً لها، كما ذهب إلى ذلك رشيد رضا.
تبنَّت فرنسا وحدها مسألة حماية المسيحيين (النصارى) في أراضي الدولة العثمانية منذ عام 1528. وفي هذا القرن وفي عدد من الاتفاقيات المعروفة باسم «الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية» اعترف السلاطين الأتراك بحق الحكومة الفرنسية وقناصلها في حماية الكاثوليك.
استمرت فرنسا في توجهها لحماية المسيحيين كافة في الدولة العثمانية باطراد وإصرار، حتى مع تعلمنها مع قيام الثورة الفرنسية وبعدها، لكن كان دعمها للكاثوليك أقوى من دعمها للطوائف المسيحية الأخرى. وقد ترتب على هذه السياسة الطائفية أن زاد أعداد المعتنقين للكاثوليكية على حساب الطوائف المسيحية الأخرى.
وقد أفادت فرنسا ذات العلمانية الراديكالية من رهبانياتها كرهبانية الجزويت (اليسوعيين) ورهبانية اللعازاريين في نشر مذهبها الكاثوليكي وبسط نفوذها السياسي ومد هيمنتها اللغوية والثقافية.
ولعل الاسم العسكري والسياسي الفرنسي الذي نعرفه في العالم العربي، والذي خالف السياسة العملية والنظرية التي تعبر عنها جملة غامبيتا، هو اسم الجنرال موريس بول ساراي الذي كان مفوضاً سامياً على سوريا ولبنان من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1924 إلى 23 ديسمبر (كانون الأول) عام 1925.
يقول عنه سلام الراسي في حكاية رواها عنوانها «العشب لا ينبت على طريق بكركي»، «كان بالإضافة إلى عنفوانه العسكري، علمانياً يكره الجزويت، وسائر رجال الدين، ويناصبهم العداء علانية».
شاهدُنا في الحكاية التي رواها سلام الراسي تحت ذلك العنوان، هو قوله «في تلك الأيام قامت بوجه سرّايل (هكذا يرسم اسمه) حملة سياسية وصحافية، قادها إميل إدّه، الذي أعلن الحرب علانية على حكم سرّايل. ثم لم يلبث أن ذهب إلى باريس، حيث استطاع أن يقنع حكومتها بأن حكم فرنسا في لبنان وهيبتها لا يقومان إلا على صداقة بكركي (مركز البطريركية المارونية لسائر الشرق)، فأصدرت وزارة الخارجية الفرنسية أوامرها إلى الجنرال سرّايل بوجوب مصالحة بكركي ومسالمة الجزويت وسائر رجال الدين».
إنَّ المثال الثاني الذي أورده رشيد رضا يمتُّ إلى مثاله الأول بعروة وثقى، لكنهما – كما ترون – لا يخدمانه في محاجته الجدالية؛ لأنهما – كما أوضحنا – من متناقضات اللائكية الفرنسية، والتي تجمع إلى النزعة المعادية لطبقة الإكليروس في الداخل نزعة طائفية في الخارج.
نواصل شرح المقتطف، فنقول: إنَّ رشيد رضا يمدح غلادستون بأنَّه من أشد الخلق تديناً. واتصاف الإنسان بشدَّة التدين - أياً كان دينه – هو عنده منقبة وليس مثلبة. ويمدحه أكثر فيقول: بل هو متعصبٌ لدينه.
الدكتور حمزة فهم من الجملة الأخيرة أنَّه يذمه. وذلك استناداً إلى المعنى المذموم لكلمتي التعصب، والمتعصب السائد في الحقبة الزمنية التي تلت عصر النهضة العربية.
والفهم الصحيح، أنَّه استعمل كلمة متعصب بمعنى إيجابي. وهو أنَّ غلادستون متحمسٌ ومناصرٌ لدينه. وهذه الصفة عنده هي من كمال صفات الإنسان.
إنَّ التحمس والمناصرة هما من معاني كلمة تعصب في اللغة والثقافة العربية قبل أن تتماس مع الثقافة الغربية وتتأثر بها. فالتعصب الديني، كما في مفهومنا السائد، المتحدر من الثقافة الغربية، كان يعبر عنه في الثقافة العربية قبل لحظة التماس والتأثر بالقول: التشدد والغلو في الدين.
إنَّ رشيد رضا من جيل عصر النهضة الذي رفض استخدام كلمة متعصب بمعناها الغربي، وأصرَّ على استخدامها بالمعنى العربي الأصلي.
وكذلك كان سلفاه الأفغاني ومحمد عبده. ففي مقالة نشراها في جريدة «العروة الوثقى» عام 1884 عنوانها «التعصب» هاجما من أول المقالة المستخدمين لكلمة متعصب بمعناها الغربي من الليبراليين العرب هجوماً نارياً. وراحا يجادلان لغوياً بأنَّ التعصب «قيام بالعصبية والعصبية من المصادر النسبية، نسبة إلى العصبة، وهي قوم الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم العداء». وأنَّ «التعصب، كما يطلق ويراد منه: النعرة على الجنس ومرجعها رابطة النسب والاجتماع في منصب واحد، كذلك توسع أهل العرف فيه فأطلقوه على قيام الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضاً، والمتنطعون من مقلدة الإفرنج يخصُّون هذا النوع منه بالمقت ويرمونه بالتعس».
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حينما ترجم النهضويون الليبراليون العرب كلمة Fanatic إلى متعصب كان لها في اللغات الأوروبية معنى مرذول وممقوت. وفي الأصل لم يكن لها في هذه اللغات هذا المعنى. فإلى القرن الخامس عشر كان من معانيها، المتحمس الملهم إلهاماً إلاهياً. ولعل بعضنا يذكر جان دارك (1412 – 1431) التي قادت الجماهير في حرب المائة عام ضد الإنجليز فهي قد ادعت الإلهام الإلهي. وعلى أساس هذا الادعاء قبل إعدامها واعتقاداً منه بصحة هذ الادعاء، أعلن البابا بندكت في القرن الخامس عشر أنها قديسة. وتعود كلمة Fanaticism إلى اللاتينية Fnatce.
ولقد مرت هذه الكلمة بمخاضات تحول في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فأصبح من معانيها المهتاج والحانق والخارج عن حدود المعقول. وصارت هذه الكلمة تعني اعتقاداً وسلوكاً ذا علاقة بالتحمس غير المتبصر أو التحمس المهووس.
وعرّف المتعصب بأنه الذي يظهر معايير عالية مقرونة برفض صارم لما هو متعارض مع أفكاره وآرائه. وعرّف التعصب بأنه وراء أو الدفاع عن شيء بمنهج متطرف مغالٍ وشغوف يتعدى أو يتجاوز المألوف. كما عرف التعصب الديني بأنه الاعتقاد الأعمى مع اضطهاد المخالفين مقرون بغياب الواقعية.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ترجم النهضويون الليبراليون العرب كلمة Toleration ذات الجذر اللاتيني Tolerareإلى تساهل وليس إلى تسامح. وكانوا يقولون التساهل الديني لا التسامح الديني. Tolerance اسم يعني المقدرة على تحمل الألم والمصاعب. ويعني تعاطف أو تساهل الفرد أو الجماعة إزاء الاعتقادات أو الممارسات التي تختلف عن الاعتقادات والممارسات التي عليها أو تتعارض معها. وتعني المرونة، أو الصبر على أو السماح لشيء ما بالحدوث. وتعني المناعة تجاه الممارسات الغريبة.
أول استخدام لكلمة tolerance في اللغة الفرنسية كان في القرن الرابع عشر. وأول استخدام لها في اللغة الإنجليزية كان في القرن الخامس عشر.
ولقد ولد مبدأ التسامح في القرن السادس عشر. ولد كردة فعل على كوارث الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، ويبدو أن أولئك الليبراليين العرب كانوا ينطقون كلمة متعصب شفاهة بلفظها الأجنبي Fantic حتى لا تفقد معناها المذموم. وهذا ما يطلعنا عليه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مقالهما المشار إليه آنفاً. فهما يقولان فيه «إذا رموا به شخصاً للحط من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ إفرنجي (فناتيك) ».
ويطلعنا عليها أيضاً رشيد رضا في مقال نشره في مجلة «المنار» بتاريخ 12 سبتمبر (أيلول) 1898 وكان عنوانه «التعصب»، وذلك في قوله عنهم: «ألا تراهم يرددون كثيراً لفظ (فناتيك، فناتيك) أي تعصب ديني». والحق أن هؤلاء النهضويين الإسلاميين الثلاثة لم يكونوا منصفين في مطارحتهم للنهضويين الليبراليين الذين هاجمهما الأولان بشتائم عديدة، منها: المتسربلون بسرابيل الإفرنج، الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط لا يميزون بين حق وباطل... ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني. ولقد تابعهم الأخير في كيل الشتائم.
يقول أديب إسحق في محاضرة ألقاها في دمشق عام 1874، وكان عنوانها «التساهل»، «ولا أجهل أن هذين الحرفين – لفظ التعصب ولفظ التساهل – غير وافيين بالمراد منهما اصطلاحاً، وإن في إيلاء الأول معنى الغلو في الدين والرأي توسعاً عظيماً. وفي إشراب الثاني ضد ذلك المعنى خروجاً عن الحد اللغوي. ولكن للاصطلاح حكماً نافذاً يسوق الألفاظ إلى المعنى الغريب فتنقاد».
كما أن الركون إلى معنى التعصب في اللغة والثقافة العربية كما فعل الأفغاني وعبده ورضا كان بحثاً غير مجدٍ. وقد أفصح فرح أنطون عن السبب في مناظرته لمحمد عبده. إذ قال: «لا نقدر أن نعرف التساهل تعريفاً لغوياً. لأن هذه الكلمة دخيلة في اللغة العصرية الجديدة. وإنما نعرف معناه باصطلاح الفلاسفة». أو بتعبير عربي نهضوي هو الحكمة العصرية. والمقصود بهذا التعبير هو الفلسفة الغربية الحديثة. وللحديث بقية.