سارة ربيع
TT

الثامنة إلا ربع صباحاً

أستيقظ صباحاً، أُغلِق المنبّه، وألتفتُ إلى صغيرتي التي تقضي ليلتها في معارك مع الغطاء، ومقاومة التهاب اللوزتين القاسي. أحلم كل ليلة أنها تزرقّ من البرد... أجسّ يديها، دافئة، أتمسَّك بها أكثر... لماذا لا أسقط في الأحلام بجانبها، ولا أفكر فيمَ سأرتدي اليوم؟! لا أريد الخروج، لكنني أعمل من الغرفة المجاورة خلال التسعة أشهر الماضية، وما زلت أضلّ الطريق كل صباح.
تغيَّرَتْ مفردات حياتي منذ تحذيرات العاصفة التي هاجمت القاهرة في مارس (آذار) الماضي، وتابعها قرار الإغلاق في مواجهة تفشي الوباء بمصر. في شهوري الأولى كنتُ أقاوم الآثار الجانبية للتباعد الاجتماعي؛ البحث الدائم عن بدائل لما كنا نفعله. وبمرور الوقت اعتدتُ... اعتدتُ ما يحدث حتى في أشد احتياجي للآخرين.
على الهاتف كنت أتابع حركة الطقس، كما أدقق في مقادير الكعك الذي لم يعد ينجح. كان من أهم طقوسي اليومية التي اختلفَت تدريجياً مع الأيام، واستبدلت بها خريطة أخرى غير مناخية. لكن ما زلت أبحث عن الأمطار الرعدية، وهل هذه الشمس أم وجه قِدْر كبير من شوربة العدس؛ فمنذ ثلاث ليالٍ أتابع قياس درجة حرارة صغيرتي، والخوف والحيرة يتغذيان على روحي... أهو دور برد عادي؟ أم «اللهو الخفي»؟
في كل مرة يحتقن فيها حلقي، أرتاب فيمن رأيتُ وخالطتُ الأيام السابقة، أصنع الحلوى مُختبِرَة حاسَّة التذوق، وكلي حذر حتى لا أخسر ما فقدتُه؛ فخلال العزل المنزلي خسرت أكثر من 30 كيلوغراماً من الوزن الزائد... في الوقت الذي كان يصنع فيه الجميع كعك العشر دقائق والبيتزا، كنت أشوي الكوسا، وأحضِّر أطباق السلطة قليلة السعرات.
أفكاري متسارعة، تتسابق في رأسي كأنها في ماراثون عالمي؛ ماذا عن مهامي الحياتية؟ مَن سيتولاها إذا مرضتُ؟ هل أضبّ حقيبة ملابس للصغيرة، أم نستمر في حالة السكون هنا وسط جدران بيتنا الذي استثمرنا أيام العزل المنزلي في طلاء جدرانه، وتجديد المطبخ والمكتبة، وصناعة جدارية من الصور العزيزة؟ حقيقة الأمر لقد كان عاما مليئاً بتساؤل: «هل هذه أمراضنا التي نعرفها أم (كوفيد - 19)»؟
حركة الأيام أسرع من انتظار انتظام مترو الأنفاق في العمل، بعد إضراب سائقيه. ومع اقتراب نهاية ديسمبر (كانون الأول) من كل عام، كنتُ أعيد على نفسي: ماذا فعلت خلال هذا العام الذي أوشك على الانتهاء؟ أشعر بأن احتفال رأس السنة الماضي كان البارحة، حين سهرنا حتى الفجر في بيت العائلة... العائلة التي تُعلِّمنا قيمة تجمُّع أيام الجُمَع وإفطار رمضان، الأعياد، اللقاءات التي تبدلت لفترة إلى بث مباشر عبر تطبيقات الإنترنت مع قسوة الموجة الأولى من الفيروس بمصر والعالم، وتدريجيّاً مع قدوم الصيف تزاورنا، لكننا لم نعد كما كنا.
في ظل الجائحة، سقطت أدورنا الاجتماعية وتبدلت إلى روتين تليفوني لا يحمل حرارة العناق، العناق... الحضن، ربما هو أكثر ما افتقدتُه هذا العام. هذا التواصل العفوي، الدافئ دائماً بصحبة الأهل والأحبّة، المصاحب للاشتياق، المعالج في حالات الحزن والفقد، والمرحّب باتساع يديه لمن نحب، أصبح يشمله التردد في تعلُّم سلام الأكتاف أو التلويح من بعيد.
لم أعاصر حرباً ولا وباءً من قبل، أحسب نفسي من «جيل الزلزال»، حين كان أقوى مشهد لقوى الطبيعة مرَّ علي، مع كل هزة من التوابع كنت أطالب أمي بأن ننزل إلى الشارع كما يفعل الجيران، كانت ترد بهدوء: «نموت في بيتنا أفضل».
في ظل الجائحة، اقتصر وداع الأحبَّة على التعازي الإلكترونية، ما أقساه وباءً حين تفقد حقك في النظرة، اللمسة الأخيرة لأحبائك! تجدد بي اليُتم أكثر من مرة هذا العام، وكانت أخبار الوفاة أسرع من تحيات «صباح الخير».
ربما من دروس عام 2020 الرئيسية ألا نعتاد، وأن نزرع نبتة الرضا لمواجهة وسواس ما يحدث. ما زلت أبحث عن اللون الثامن من قوس قزح. في كل يوم نتعلم شيئاً جديداً دون أن ندري، ندرك قيمة ما نملك أكثر، نؤمن بالموسيقى والشعر والأفلام أكثر، نتعثر أحياناً لكننا نتبع الشغف مجدداً.
أصنع لدمية صغيرتي شعراً كثيفاً بعد أن سقط شعرها جراء عمليات التمشيط والتعذيب الكثيرة التي تتعرض لها. الدمية صابرة ممتنة لما أفعل. أعيد ترميم فستانها أيضاً، يحرقني الشمع الساخن في يدي. شعرها الجديد يصل إلى نصف قامتها الممشوقة، تتغير ملامحها وتزداد جمالاً... تفرح صغيرتي وتندهش مما فعلتُ، تغوص في حضني شاكرة، تخبرني أن هذه الدمية البنفسجية ذات الشعر الصوف الأبيض هي «مامي». ربما هي وحيدة أيضاً ويعاكسها اليوم، ربما لم ينتفع بها أحد مثلي، ولم يعلق ثوبها إلا على الطريق!