لم أَكُنْ مهتماً بالسياسة أو عاملاً فيها؛ لكنَّني بحكم الصلة العائلية مع القيادات كنت مطلعاً على التطورات والتغيرات، وجميعها كانت ذات طبيعة سلمية وخيرة. أما العلاقات بين الأسر الحاكمة في دول الخليج فكانت تقوم على قواعد أسرية رفيعة، فَلِلْكبيرِ احترامُه مهما كانت طبيعة عمله، والثقة والتعاون بين حكامِنا كانا أساسَ كل عمل، حتى أن الشيخ حمد بن خليفة في بدايات ولايات العهد لم يكن يختلف عن هذا النهج، باستثناء نوبات من التصرفات المفاجئة التي كانت تمضي بعفو الكبار وتفهمهم لأحوال الشباب وحماسهم واستعجالهم، كما كانوا يظنون.
لم يكن انقلاب الشيخ حمد على المرحوم الشيخ خليفة عملاً متوقعاً، وأحدثَ صدمةً كبيرةً في أوساط أسرة آل ثاني، إلا أنَّ أحداً لم يتحرك ترقباً للمصالحة، وأملاً في التصحيح، قياساً على الخطوات الاستفزازية التي سبق للشيخ حمد أن قام بها لكن عولجت في حينها. إلا أنَّ الأحداث اللاحقة بيَّنت أن لسياسة قطر خطأ يختلف عن شقيقاتها في دول الخليج؛ بل يعاديها في أوقات كثيرة. ورغم الاستنكار الخليجي المتزايد لسلوك قطر، سواء في الإعلام أو السياسة، فإنَّ قاعدة الكبار من شيوخ الخليج ظلَّت: عيالنا وإن أخطأوا.
حينما انتشر تسجيل مكالمة القذافي مع حمد بن خليفة التي قال فيها حمد إنه يعمل على إسقاط السعودية، ظننتها من أعمال الكارهين الذين لا يريدون للخليج خيراً، إذ يستحيل أن يطعن الخليجي أخاه، أو يتآمر عليه؛ خصوصاً إن كان الأخ مثل المملكة العربية السعودية الحاضن الأكبر لكل الخليج، ولو أن السعودية مسَّها ضرر لكان أول الفانين قطر، مع العلم أن السعودية هي الدولة الصلبة الواثقة في كل المنطقة.
لم أصدق هذا التسجيل لبشاعته وخبثه، ولأنَّ السعودية لم تتخذ أي إجراء، مع أن بعض الأصدقاء والمقربين يؤكدون صحته، ويقولون إنَّ ما ظهر من التسجيل هو مجرد جزء بسيط من المخطط العدواني من نظام قطر ضد المملكة العربية السعودية بشكل أساسي، ثم لباقي إخوتها في الخليج؛ لأنَّ طريقة تفكير الحاكم القطري هي أن دول الخليج مثل قطع الدومينو المتراصة، إن سقطت السعودية تبعتها الأخريات تلقائياً. حمى الله بلداننا وأهلنا من الشر، وعقوق الأبناء وجرائمهم حين يسلمون قيادهم للحقد والغل، ويوجهون شرورهم لإخوتهم وأهلهم.
للأسف تحولت قطر الوديعة القائمة على التنمية ورفاهية مواطنيها ومحبة أهلها وجيرانها، إلى شيء غريب لا نعرفه ولا ينتمي إلينا. وتحوَّلت أرضنا التي كنا نعرف أهلها ويعرفوننا إلى ساحة تمتلئ بأناس ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكراهية، وكأنهم يتنفسون فضاءً واحداً لا ينتمي إلى سمائنا ولا يخالط هواءنا. بدأت قطر في التحول في كل النواحي، ولم يسلم من ذلك أهلها، فكانت «كارثة الغفران» الذين انتزعوا من أرضهم وبيوتهم، فتفرقوا بين السجون والشتات. ثم بدأ اللعب بصورتنا الاجتماعية، فتغيرت القبائل والأسر وفسد طبعها، فلم يعد هناك احترام لتقاليد أو عادات أو روابط؛ لأنَّ كل شخص أو أسرة أو قبيلة تخالف النظام أو تعبر عن قلقها يكون مصيرها الضغوط والعقوبات. ولم يسلم آل ثاني من هذه الهجمة، فأصبحت هذه الأسرة - وهي من أكبر الأسر الحاكمة في الخليج عدداً - فرقاً متناحرة ومتعادية، بعد أن كانت على قلب رجل واحد؛ لأن الحاكم يسوط بالأذى والتهجم وحتى الإهانة، كل فرد فيها لا يتبع دربه من دون اعتراض.
أعود للقول إنني لست رجل سياسة؛ لكنني كنت أعرف أهلي العرب الأشاوس الذين كانت سماتهم الخير والوفاء والمحبة، وخدمة إخواننا المواطنين، والتضامن مع أشقائنا الخليجيين. الذين لا يسكتون على ضيم؛ لكننا اليوم لا نكاد نعرف بعضنا، ونتساءل: ماذا حدث لنا؟
لقد تغير وجه قطر، ليس في سياستها التخريبية فقط؛ بل حتى شوارعها التي أبعدت أهلها، وجلبت مكانهم كل مرتزق هو في الأصل عدو لنا. أنا شخصياً أشعر بغصَّة كلما سمعت شيئاً عن قصر الوجبة؛ لأنه كان علامة مجدنا وراية انتصارنا، قبل أن يعود الترك إليه بكل عنفوان، فيحكمونه سلماً واستصغاراً، بعد أن عجزوا عنه حرباً.
أعرف أن لغتي حادة؛ لكنها والله المرارة، والحزن الذي يشلني على بلدي، وما تتعرض له من تدمير يبدل ملامحها ويدمر مستقبلها. أخون وطني وأهلي وإرثي إن سكت، وسأفقد احترامي لنفسي وقيمتي إن رضيت بما يحدث.
أنا على يقين بأن هذا الوضع الشاذ لن يدوم، وسيذهب مع صاحبه؛ لكنني أخشى أن يكون الأثر هو خراب أنفسنا، وفقداننا الثقة بمستقبلنا، والشك بيننا، وسوء الظن في بعضنا، وهو مرض قد نقضي عقوداً في علاجه، وإن كانت الثقة بأهلي وأسرتي أقوى وأمتن.
الصورة اليوم شديدة السواد، وانحرافات النظام تزداد وتتوسع، فلم تعد له بالعروبة صلة، ولم يعد الشقيق لمن ينطق بلسانه ويشاركه الدين القويم؛ بل استجلب إلينا كل عاهة ومصيبة، وطمس كل ملامح خيرة في بلادنا.
المسألة ليست التصاقاً بالدول المقاطعة لنظام قطر ونصرة لها، وليست كراهية للشيخ حمد، رغم انقلابه على كبيرنا المرحوم الشيخ خليفة؛ بل خوفاً على قطر نفسها، خوفاً على الأرض التي يرقد في بطنها أجدادنا، وعليها ولدنا وأبناؤنا، ونحمل اسمها وطموحها ومستقبلها. نريد أرضاً خصبة وآمنة لأولادنا مثلما كانت لأجدادنا ولنا لبعض الوقت، نريد أن يكون لأسرة آل ثاني بيت واحد يجمعهم وأهلهم من أهل قطر، كما جمعتهم أيام الشدة ومواجهة كل عدو ومحتل. نريد قطر عدوة الإرهاب التي تطرد كل مجرم أثيم، ولا تحدث فساداً؛ بل هي أرض اللؤلؤ والشجاعة والكرم كما هو حال إخوانها الآخرين.
لم يتحقق حلم واحد للشيخ حمد، فلم تنجح ما سميت ثورات «الربيع العربي»، وأصبحت إيران اليوم كأنها قفص للخوف، فإن لم يصلها الموت من الخارج وصلها من الداخل، ولم تعد تركيا نموذج الإسلام الصاعد؛ بل بلد المشكلات والعدوان على كل حليف، وأولهم قطر التي تحلبها وتمص ثرواتها، فلا هي رأس في التوجه، ولا هي سالمة من الضرر. تكشفت الصورة الخادعة عن «الإخوان المسلمين»، واستبان شرهم لكل بلد، وضاقت عليهم الدوائر، فأصبحوا لا حضن لهم سوى تركيا مؤقتاً، وقطر التي تغص بهم وبجرائمهم.
أعرف الشيخ حمد، ويعرفه كثير من أهلي، وأن لا أمل في عودته أو صلاحه، فلا قطر تعنيه، ولا أهلها سوى أدوات له ليمضي في طريقه المخرب. لكن هل من الممكن التفاؤل في صحوة من الشيخ تميم وبعض أهله الأقربين؛ خصوصاً أنه ليست لديه سلطة الآن، وجميع أسرة آل ثاني يعرفون أن الأمر كله لوالده، حتى إن أرادوا شيئاً يخصهم أو المساعدة في معالجة وضع لهم؟ الشيخ تميم هو أمير البلاد وحاكمها، فهل سيكون كذلك فعلاً؟ وهل سيعيد ديرتنا إلى مسارها وينفض عنها كل البلاوي التي توالت عليها؟
9:3 دقيقه
TT
قطر التي أعرف... والأخرى التي أجهل
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة