تحت ذريعة الدفاع عن النفس بعد سقوط قتيل وأربعة جرحى أميركيين، نتيجة هجوم صاروخي نفّذته فصائل ما تسمى المقاومة العراقية ضد قاعدة (k1) الأميركية في كركوك، ردت واشنطن بقسوة تحمل رسائل ردع تفرض على من تلقاها إعادة قراءة حساباته الميدانية والسياسية، فحتى الآن تبدو واشنطن ملتزمة بقواعد الاشتباك، لكن تحذيراتها واضحة بأنها ستردّ بقسوة أكبر إذا ما تعرضت لضربة أخرى، وهذا ما يضع الكرة في ملعب الطرف الذي دفع الأمور إلى هذا المستوى من التصعيد.
أزمة الطرف الآخر، أنه عالق الآن بين انكساره المعنوي إذا تجنب الرد على الرد، وبين مخاطر الانزلاق إلى مواجهة غير متكافئة لن تُحمد عقباها، والأسوأ لهذه الجهة أن ارتدادات الرد، والرد على الرد، لن تكون محصورة سياسياً وميدانياً في العراق، فالجهة المتهمة بالهجوم على معسكر (k1) والتي تعرضت لهجوم أميركي، أي كتائب «حزب الله العراقي»، مرتبطة عقائدياً وعسكرياً ومالياً بـ«فيلق القدس»، الذي بات قائده الآن في موقع لا يُحسد عليه لعدة أسباب؛ فالجنرال قاسم سليماني يواجه منذ بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تمرداً اجتماعياً شيعياً على سلطته في العراق، سلطة باتت محصورة بوكلاء فقدوا شرعيتهم الشعبية ويدافعون عن شرعيتهم السياسية بقوة السلاح. فلم تنجح بنادق الميليشيات وقناصيها في إيجاد مخرج لحالة الانسداد التي تعاني منها العملية السياسية التي يرعاها سليماني، ولم تؤتِ الضربات الإحدى عشرة لأهداف أميركية في العراق على مدى سنة تقريباً فتح ثغرة في جدار الشروط الأميركية على طهران. حالة الانسداد فرضت على الأطراف المعنية اللجوء إلى الاختبار الصعب، وعلى الأرجح أن صُناع القرار راهنوا ميدانياً على تردد واشنطن في الرد على أي هجوم تتعرض له مصالحها حفاظاً على سلامة قواتها المنتشرة في العراق، أما سياسياً فعلى الأغلب أن مَن حدّد توقيت الهجوم على معسكر (k1) ربطه مع موعد انطلاق الحملة الانتخابية الأميركية، الأمر الذي يفرض على إدارة البيت الأبيض عدم التسرع في اتخاذ أي قرار تصعيدي يؤثر مستقبلاً على قرارات الناخب الأميركي، ما يسمح للنظام الإيراني المأزوم داخلياً وخارجياً بتحقيق انتصار معنوي بفتح إمكانية للتسلل داخل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
حتى لحظة الهجوم على معسكر 45 التابع لكتائب «حزب الله العراقي»، لم يُتوقع أن تختلف ردة الفعل الأميركية عما سبقها من هجمات، لكن ما غاب عن بال طهران أن سقوط ضحايا أميركيين ينقل الصراع معها إلى رأي عام أميركي مؤيد لمعاقبتها، تستغله إدارة البيت الأبيض في رفع مستوى التصعيد وفرض مزيد من العقوبات.
في معركة تصفية الحسابات الأميركية الإيرانية في العراق، سارع «الحرس الثوري» الإيراني إلى المطالبة بإخراج القوات الأميركية من العراق، وقال في بيانه إن «من حق الشعب العراقي الحكيم و(الحشد الشعبي) البطل الانتقام بعد هجوم القائم»، فيما نفت الحكومة الإيرانية على لسان المتحدث باسمها علي ربيعي، أي علاقة لها بالهجوم على معسكر (k1) الأميركي في كركوك، وفي خطوة أخرى لتجنب الاحتكاك المباشر مع واشنطن وعدم الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة معها تتخطى حدود العراق، اعتبر عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه، أن سياسات بلاده الإقليمية لا تقوم على استهداف القوات الأجنبية. وأكد أن «استهداف الجنود الأميركيين في العراق فخ لإيران»، وأنه «منذ تدخل الناتو في أفغانستان وتدخل أميركا في العراق، كانت سياسة إيران تركز على عدم إيجاد توتر مع القوات الأجنبية في المنطقة».
من الواضح أن طهران ذهبت بعيداً في استثمار الرد الأميركي، مستغلةً انفعال العراق الرسمي ورفع شعارات السيادة الوطنية في التحريض على إخراج القوات الأميركية من العراق، وفي تصفية حساباتها مع انتفاضة الأول من أكتوبر وحصارها تحت ذريعة المؤامرة الخارجية ضد محور «المقاومة»، إلا أن موقف الاحتجاجات ورفض جميع أنواع التدخل الخارجي التي تتطابق مع موقف المرجعية الدينية النجفية التي دعت إلى احترام السيادة العراقية ورفضت التصرفات غير القانونية التي يقوم بها بعض الأطراف، رفضت أن يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية وتدخل الآخرين في شؤونه الداخلية.
أزالت طهران الخطوط الحمراء من مداخل المنطقة الخضراء، وسمحت لأنصار وكلائها بمحاصرة السفارة الأميركية، في مشهد يعود بالذاكرة إلى اقتحام السفارة الأميركية في طهران قبل 40 سنة، ما أدى إلى حصار إيران ومعاقبتها. فهل المطلوب اليوم أن تدفع طهران بالعراق إلى مواجهة مع واشنطن لكي يتم عزله ومحاصرته؟ أم أن سوء التقدير سيضطر طهران إلى دفع الثمن؟
TT
العراق... سوء التقدير الإيراني
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة