علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

جولة تحرٍ مع إفادات للغزالي

استمع إلى المقالة

المعلومات التي أمدَّنا بهَا ج. هيوارث دن في كتابه «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصرَ الحديثة» عمَّا حصل بين حسن البنا وسيد قطب، حين كانَ الأخير يرأس تحريرَ مجلة «الفكر الجديد» الأسبوعية، هي أوسعُ وأدقُّ من المعلومات التي باحَ بها الشيخ محمد الغزالي للباحث شريف يونس في رسالته الجامعية عن سيد قطب.

المشكلة التي تواجهُنا في الإفادات التي قدَّمها الشيخ محمد الغزالي عن نوع العلاقة بين سيد قطب و«الإخوان المسلمين» قبل انضمامِه لهم في عام 1953 أنَّ بينها اختلافات وتباينات. فلنعالج هذه المشكلة قبل أن نقارنَ بين ما قاله الغزالي وما قاله هيوارث دن عن صدام البنا مع قطب عام 1948.

في ندوة «الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي» المطبوعة أعمالها في كتاب عام 1987. قال الغزالي في تعقيبه على بحث محمد أحمد خلف الله «الصحوة الإسلامية في مصر» إنَّه يذكر أنَّ صالح عشماوي أرسله إلى سيد قطب ليكتبَ كلمةً عن البنا في الذكرى الأولى لمقتله عام 1950 - هذه الواقعة صحَّح شریف یونس تاريخها بأنَّها حدثت في الذكرى الثانية لمقتله عام 1951 - فقالَ له سيد قطب: «أرجو قبولَ اعتذاري فمن الخير أن أكونَ بعيداً».

في كتابٍ طُبع عام 2012 عنوانه: «حوارات الشيخ الغزالي: السيرة والمسيرة»، قالَ الغزالي فيه عن سيد قطب: «عرضت عليه أن ينضمَّ إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1950. فقال لي: الأفضل أن أكونَ بعيداً»!

هذا الكتاب كتبَ أسئلتَه لفيفٌ من الباحثين الإسلاميين من مريدي الشيخ الغزالي، وقدمه إلى القارئ طه جابر العلواني. ومن إشارتين ناقصتين في تقديم العلواني خمَّنت أن حواراتِ الكتاب كانت في مطلع التسعينات الميلادية.

من أولئك المريدين طارق البشري الذي مع تحوله إلى الاتجاه الإسلامي ظلَّ الماركسيون واليساريون المصريون، يصنفونه بأنَّه رجلٌ محافظٌ على علميته وموضوعيته، بسبب أنَّه كان ذات يوم «رفيقاً» سياسياً وآيديولوجياً لهم. ومن أولئك المريدين فهمي هويدي، الذي أمضى سنوات في خط «الاستنارة الإسلامية» قبل أن ينقلبَ إلى «ديماغوجي إسلامي حاذق».

هذه الجملة: «من الخير أن أكون بعيداً» والأخرى «الأفضل أن أكون بعيداً»، هل قالهما سيد قطب للغزالي، معتذراً عن عدم كتابة كلمة عن البنا في عام 1951 بمناسبة الذكرى الثانية لمقتله أم أنه قالهما له، معتذراً عن عدم الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين في ذلك العام؟

الصيغة الأولى للجملة كتبها في تعقيبه على بحث العلماني محمد أحمد خلف الله، للتصدي لنقده لفكر «الإخوان المسلمين» في تلك الندوة التي كان أكثر المشاركين فيها من العلمانيين. كما أنَّ الجهة التي نظمتها - وهي مركز دراسات الوحدة العربية - مصنفة بأنها جهة علمانية.

الصيغة الثانية للجملة تضمنتها إجابة عن سؤال وجهه إليه الإسلامي الإخواني جمال الدين عطية في جلسة من جلسات، يبدو أنَّها استمرت على نحو غير منتظم، كان يشهدها أصحاب الغزالي وأحبابه من الإسلاميين.

إذا ما أخذنا هذين الأمرين الآيديولوجيين بالاعتبار، أتساءل: هل هو يكيّف رواية الواقعة أو يتصرَّف بها بحسب الجمهور الذي أمامه؟

في إجابته عن سؤال جمال الدين عطية حين ذكر أنَّه عرض على سيد قطب الانضمام إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، فقال له: «الأفضل أن أكونَ بعيداً»، أتبعها بكلام موصول بهذه الجملة، هو: «وكان الأستاذ صالح عشماوي بوصفه نائباً للمرشد العام والمرشد غائب، فكان يدير أمر الإخوان، وكنا نصدر عدداً بمناسبة ذكرى استشهاد الأستاذ البنا، ومن الخير أن أقول: إنَّ الفترة بين أعوام (1949) إلى (1952) كانت البلاد محكومة بدستور قائم».

قد تلحظون معي أنَّه قد حصل قطع وحذف ما بعد جملة «بمناسبة ذكرى استشهاد البنا». ومن الواضح أنَّه أورد بعد هذه الجملة خبر اعتذار سيد عن عدم كتابة كلمة عن البنا في الذكرى الثانية لمقتله. وهو الخبر الذي كان ذكره من سنوات في تعقيبه على بحث محمد أحمد خلف الله.

الإخوة في المعهد العالي للفكر الإسلامي بعد أن فُرِّغت تسجيلات الحوارات مع الغزالي لهم، وبعد أن قاموا بتحرير إجابات الغزالي الشفاهية عن أسئلة كتبها مريدوه، رأوا أن يحذفوا من كلام الغزالي ما جاء بعد جملة «بمناسبة ذكرى استشهاد الأستاذ البنا»، لأن ما جاء بعدها يظهر سيد قطب بمظهر الجبان. وجلية الأمر أن سيد لم يعتذر عن عدم كتابة كلمة عن البنا، بل هو رفض ذلك. لأنه - من الأصل - كان متخشِّب الصدر على البنا، فلما منع البنا الإعلانات عن مجلته «الفكر الجديد» وضيّق عليها في توزيعها مقته أشد المقت. وهذا أمر يعلم الغزالي به حق العلم.

وثمة محذورٌ رقابيٌّ آخر، وهو أن كتبة «الإخوان المسلمين» والكتبةَ الإسلاميين عموماً بذلوا جهداً تلفيقياً جباراً في مجلاتهم وفي كتبهم في عقد أواصر التوافق والانسجام - على صعيد شخصي وعلى صعيد فكري - بين البنا وقطب. فإن أجازوا نشر تلك المعلومة على لسان الغزالي في كتاب تكريمي له، يكونوا بهذا الصنيع قد أفسدوا على أنفسهم ما تعب رفاقهم في تلفيقه من سنين طويلة.

ومن حسن الحظ أنَّ أولئك الإخوة تركوا قرينة تثبت أنَّهم اقترفوا جنحة الحذف غير المقبول.

يُستخلص من هذا التحري أنَّ واقعة رفض سيد قطب عام 1951. كتابة كلمة عن البنا بمناسبة الذكرى الثانية لمقتله، هي واقعة صحيحة.

تبقى المشكلة الأخيرة، فلنعالجها هي الأخرى.

هذه المشكلة هي: هل عرض الغزالي على سيد قطب الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1951 أم عام 1948؟ وهل قدَّم له هذا العرض بمبادرة منه أم بـ«أمر» من البنا؟! وللحديث بقية.