د. فيليب سالم
رئيس مركز سالم للسرطان في هيوستن
TT

خمسون سنة من التمرد على السرطان

يصادف أن يكون هذا اليوم، اليوم العالمي للسرطان. وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، تقف البشرية بخوف أمام هيبة «إمبراطور الأمراض». وتصادف أن تكون هذه السنة، السنة الخمسين التي قضيتها من حياتي في معالجة الأمراض السرطانية والأبحاث فيها. لقد التحقت سنة 1968 بمؤسسةMemorial Sloan Kettering في نيويورك وبدأت عند ذاك رحلتي مع السرطان. خمسون سنة. نصف قرن. عمر من التمرد على السرطان. عمر من التمرد على اليأس. عمر من الإصرار على الأمل. عمر من الإصرار على الحياة. فبينما يلهث معظم البشر وراء خدمة الأقوياء لقد أكرمني الله فأعطاني شرف خدمة أضعف الضعفاء. لذا أشكره كل يوم. كما أشكره أيضا لأنه علمني أن أكبر تكريم أو جائزة يمكنني الحصول عليها هو شفاء مريض واحد. ألم يأتِ في القرآن (عن النفس) «.... وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»؟ وبينما يقبض العنف على الأرض وتدمر الحروب الإنسان والحضارة، هناك الآلاف من الرجال والنساء الذين التزموا محاربة المرض دفاعاً عن كرامة الإنسان، ودفاعاً عن حقه في الحياة. كم أشعر بالفخر أنني كنت واحداً منهم.
في الخمسين سنة الماضية، كنت شاهداً على تاريخ تطور المعرفة في معالجة الأمراض السرطانية. لقد شهدت على تطور العلاج الكيميائي ونموه، ومن ثم العلاج البيولوجي، ومن بعده العلاج المستهدِف، وها نحن اليوم نشهد بزوغ فجر العلاج المناعي. في العلاج الكيميائي يدمّر الدواء الخلية السرطانية كما يدمّر، ولو بنسبة أقل، الخلية الصحيحة. وفي العلاج البيولوجي يعطى المريض مادة بيولوجية موجودة أساساً في الجسم وليست غريبة عنه، ولكن تعطى بجرعات أكبر. أما في العلاج المستهدِف، فالدواء يستهدف الخلية السرطانية وحدها ولا يمس الخلية الصحيحة بأي أذى. وفي العلاج المناعي يعطى الدواء ليدعم ويقوي جهاز المناعة في الجسم ليتمكن هذا الجهاز من رصد الخلية السرطانية وتدميرها.
هذه العلاجات المختلفة تكمل بعضها البعض ولا يلغي الواحد منها الآخر. ومن الخطأ الاعتقاد بأن العلاج الكيميائي أصبح من الماضي. في مركز السرطان الذي يحمل اسمي في مدينة هيوستن، نحن نستعمل علاجات جديدة تضم إلى العلاج المناعي العلاج الكيميائي والعلاج المستهدف. وها نحن نرى اليوم نتائج لم نرها من قبل. لذا نقترح إجراء أبحاث على عدد أكبر من المرضى للتأكد من فاعلية هذا المزيج من العلاجات وصدقية هذه النتائج. وها أنا أشعر، وبعد خمسين سنة في الأبحاث، أن هذا المزيج سيفتح الباب أمام عصر جديد في معالجة الأمراض السرطانية. هذا في عالم الدواء. أما في السنوات الأخيرة فتمددت المعرفة لتطوير علم جديد وهو العلاج بواسطة تغيير الجينات. في هذا العلاج تؤخذ خلايا محددة من دم المريض ثم تخضع هذه الخلايا في المختبر لتكنولوجيا جديدة يتم بواسطتها تغيير هندسة هذه الجينات ومن ثم تعود هذه الخلايا الجديدة وتحقن في عروق المريض.
من خمسين سنة كانت نسبة الشفاء التام من الأمراض السرطانية لا تتعدى 6 في المائة أما اليوم فالعلم قادر على شفاء نحو 70 في المائة من المرضى الذين يخضعون للعلاجات الحديثة. إلا أن المأساة تكمن في أن عدد الذين يحصلون على العلاجات الفعالة هم أقل من 10 في المائة. والمأساة الثانية هي أننا نملك اليوم المعرفة الكافية للوقاية من 75 في المائة من الأمراض السرطانية شرط أن توضع هذه المعرفة في خدمة البشر وفي عهدة السياسات الصحية الفعالة.
خمسون سنة. امتزج فيها الأمل مع اليأس؛ وامتزج فيها النجاح مع الفشل. خمسون سنة تعلمت فيها الكثير. لقد تعلمت أن الحياة هي أعظم ما نملك، والحفاظ عليها هو أهم ما يمكن أن نعمله. عندما تحافظ على الحياة، أنت لا تمجد الحياة فقط بل تمجد أيضا الخالق الذي وهبك الحياة. إن شرعة حقوق الإنسان على خطأ، لأن أهم حق للإنسان ليس الحرية، إنه الحق في الحياة. الحق في الصحة. إن الذين يموتون لا يطالبون بالحرية.
وتعلمت أيضا أن المرور بالفشل ضروري للوصول إلى النجاح. فالفشل هو قسم من الطريق الذي يأخذك إلى النجاح. لذا فالذين يخافون من الفشل لا يمكنهم صنع النجاح. وتعلمت أنه ليس بالإمكان الوصول إلى الهدف من دون الإصرار على المثابرة. المثابرة رغم الألم، رغم الخوف، ورغم اليأس. من يستسلم عند خسارة أول معركة، لا يربح حرباً أبداً.
وأعظم ما تعلمت، تعلمته من الفشل. كان الفشل أكبر معلم لي. لقد علمني التواضع. التواضع أمام هيبة الخالق. التواضع أمام هيبة المعرفة. التواضع أمام هيبة الوجود. التواضع أمام هيبة الحياة. إن التواضع هو أعلى قمة قد تصل إليها في داخلك. وعندما تصل إليها عند ذاك يباركك الله ويعطيك شيئا من نوره.

- رئيس مركز سالم للسرطان في هيوستن