الشرق الأوسط
TT

عرس العالم الكروي

مرة كل أربع سنوات تشخص أنظار محبي الرياضة في العالم إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم، أو «المونديال»، كما باتت تُعرف في أركان المعمور الأربعة.
«مونديال 2014» تستضيفه اعتبارا من اليوم دولة ضخمة طموحة، كانت تعد حتى الأمس القريب من «الدول النامية»، غير أنها اليوم تقرع الباب لدخول مجلس الأمن الدولي.
البرازيل تتبوأ حاليا مكانة بارزة، ليس فقط على الصّعد الديموغرافية أو الاقتصادية أو السياسية، بل غدت لاعبا مؤثرا في مجال التفاعل الحضاري بين الشعوب. واليوم عندما تطل البرازيل على العالم مستضيفة أحد أهم حدثين رياضيين على الروزنامة العالمية، بجانب الألعاب الأولمبية، فإنها تعيد إلى الذاكرة أهمية الرياضة في فتح أبواب التفاهم والتفاعل، وتعيد إلى الذاكرة كسر «دبلوماسية البينغ بونغ» جدار العداء الأميركي - الصيني.
والحق أن قلة قليلة من دول العالم جديرة بتوفير مسرح للتلاقي الحضاري والثقافي على هذا المستوى مثل البرازيل. فهي موطن لجاليات كبيرة أتت إليها من كل أنحاء العالم، وانسجمت في ربوعها وأسهمت في نهضتها. وهي كدولة تسير بثقة نحو المستقبل على الرغم من التفاوت الواضح في المستويات المعيشية بين أغنيائها وفقرائها، وهو تفاوت ظهرت ملامحه في الاضطرابات الأخيرة اعتراضا على ارتفاع تكلفة استضافة البلاد هذا المونديال، بينما تتوسع في مدنها المكتظة بالسكان «قرى الصفيح» التي ما زال ساكنوها بانتظار التشارك في قطف ثمار البحبوحة الموعودة.
وهنا يجب القول إن النمو الاقتصادي السريع لا بد أن يتسبب في ارتباك مؤقت يؤثر على سلاسة تقاسم الثروة وتوزيعها بين القوى المنتجة والجموع المستهلكة، غير أن الأرضية الصلبة كفيلة بتحمل سلبيات هذه المرحلة الانتقالية، بما فيها آفاتها الاجتماعية مثل مشاكل الأمن والسلامة العامة.
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن كرة القدم، بالذات، تتمتع بمزيتين: الأولى أنها رياضة تضرب جذورها في عمق البيئات الشعبية والعمالية والفقيرة في معظم أنحاء العالم، وبالتالي تتمتع بقاعدة عريضة بخلاف «رياضة النخبة». والثانية أنها ظاهرة تجاوزت الحدود الجغرافية وتغلّبت على المعوقات البيئية في حين ظلت رياضات عديدة أسيرة مناطق بعينها، وهذا فارق يعطي كرة القدم مذاقا خاصا لا يتوافر لأي من الرياضات.
خلال ساعات معدودات ستطلق الصافرة معلنة بداية مباراة الافتتاح بين البرازيل - الدولة المستضيفة - وكرواتيا، ومعها سيدخل العالم بأسره أسابيع استثنائية تتجه طوالها الأبصار إلى الملاعب البرازيلية الخضراء. ولكن على الرغم من المتعة التي سيشعر بها مئات الملايين، من الواجب التنبه إلى ضرورة ألا يطغى هذا الحدث الكبير خلال الأيام المقبلة على ما يشهده العالم من تطوّرات، وما يعصف بعدد من البلدان من مآسٍ، وما يخيم عليها من حروب ومشاكل ومصاعب.
الرياضة صحة ومتعة وتشويق وتنافس شريف، إلا أنه من المأمول من المناسبة التي تنطلق اليوم ألا تغطي على آلام الناس، وألا تخمد معاناة المتألمين، بل تكون معبرا عن أجمل ما في الناس من ميل للتعاون والتفاهم بسلام وإيجابية.