غالية قباني
كاتبة وروائية سورية مقيمة في بريطانيا من اسرة «الشرق الأوسط»
TT

سياحة من دون «العربية»

للمرة الأولى في حياتي، تصادف أني في سفر تمنيت فيه ألا أسمع أحداً من حولي يتحدث العربية؛ فرحلة الاسترخاء التي تطلعت إليها طويلاً في السنوات الماضية، ما كانت بحاجة لمن ينغص علي فيها بنقاشات تبدأ بـ«مرحبا. الأخ عربي؟ من أين؟»... وتنتهي بنقاشات حول أوضاع المنطقة بدءاً من سوريا ومروراً بمصر واليمن ولبنان، فما اجتمع عربيان إلا وكان الخوض في الأوضاع السياسية للمنطقة، مثل: الشيطان ثالثهما.
بت لا أحبذ النقاش في ملفات المنطقة المعقدة، لما تجرّ معها من خلافات في وجهات النظر تصل الى حد الاحتدام؛ إذ يندر الآن أن تتفق مجموعة ما في الرأي على ملف واحد، وقد يتجاوز النقاش في أغلب الأحايين الاختلاف إلى الاحتدام الشديد.
يحق لي ولغيري أخذ فترة استراحة من النقاشات التي باتت عقيمة حول المتغيرات التي طرأت على المنطقة منذ 2011، وتسببت، بسبب سوء إدارة ملفاتها، في خراب كبير لمجتمعاتها، لم تنجُ منه حتى العلاقات الشخصية من صداقات وزمالات، بل وحتى بين المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويبدأ الاختلاف في هذه الملفات، من التسمية؛ فهناك من يسمّي الحراك الذي اجتاح المنطقة «ربيعاً عربياً». وهناك من يشير إليه بتعبير «ما يُسمّى بالربيع العربي». أيا كانت التسمية، فما اختلفنا على مسماه ومضمونه، انفجر مثل بركان أطلق حمماً اختنقت طويلاً في زوايا الأوطان والنفوس. ومن ينكرها، من الطبيعي، أن ينكر التسمية أيضاً. ومن يحاجج بأنها استغلت ممن ركب موجتها، فإن اعتراضه مردودٌ عليه بالحجة نفسها. والآن لا يمكنني أن أستوعب، مثلاً، رفضاً من شخص لأحداث «يناير (كانون الثاني) ساحة التحرير في القاهرة»، فقط، لأن «إخوان مصر استغلوها لصالحهم». كما لا يمكنني أن أستمع لمن يقفز فوق جثث الضحايا من السوريين وركام الخراب الذي طال سوريا، ويمتدح نظام الأسد من منطلق أنه «يحارب الإرهاب». وقس على بعض الدول العربية التي تشهد تحولات مجتمعية خطيرة، وبدل أن يفكر المجادلون بأسباب حدوثها تراهم يهرعون لرميها على ظهر حامل سهل: الإرهاب، أميركا، الغرب.
أمثال هؤلاء، ما عدت أملك النفَس الطويل لمجادلتهم في الأوقات العادية، فما بالك في فسحة الاسترخاء من كل الأمراض التي أصابت المنطقة وهي توغل في تجاهل أمور مهمة تخص شعوبها، وتنشغل بحزازات عقائدية شتى، غاضة البصر عن فساد تضخم في حمأة انشغال المجتمعات بالمتغيرات الجديدة.
وفي يوم كنت أتجول فيه داخل مركز جزيرة كورفو اليونانية الوادعة، ألحَّ بائع هدايا تذكارية عليَّ للدخول إلى محله واعداً بخصم على المشتريات. وأثناء اطَّلاعي على مقتنيات محله، سألني من أين أنت؟ «من سوريا»، أجبت. فشهق: «ياه... لديكم متاعب كثيرة في بلادكم الآن». وأكمل بنبرة تعاطف: «أتمنى أن ينتهي كل شيء ويعم السلام في بلدكم. أنتم تستحقون ذلك لأنكم شعب طيب».
خرجت من المحل وأنا أشعر بارتياح، ليس فقط بسبب الخصم على هدايا تذكارية لطيفة، بل امتناناً لبائع غريب منحني الإحساس بالتعاطف مع قضية بلدي وشعبي، مختصراً تنظير عشرات من تعاملت معهم صدفة أو بمعرفة مسبقة، وكأن سوريا تستحق ما حدث لها بسبب مطالب بسيطة للشعب، أو لوجود داعش والنصرة فيها، وسأبقى أكرر أن هناك من يتواطأ عن قصد «محليا وإقليميا»، لحرف مطالب السوريين العادلة باتجاه أجندات لا تخص السوريين أنفسهم. وأرى أن التعاطف هو أكثر ما افتقده السوريون من بعض إخوانهم في المنطقة الذين عاملوهم مثلما يعاقبون امرأة تمردت على «رجلها»، واستحقت ما لحق بها من عواقب.
مر أسبوعٌ كنت محظوظة فيه بأن كان لي ما أردت من عدم الدخول في نقاشات عربية. وفي اليوم قبل الأخير لإجازتنا، وصلت مجموعة سياحية من إسرائيل إلى الفندق الذي نقيم فيه أنا وزوجي. اقترب منا رجل متوسط العمر، وسألنا شيئاً بالعبرية. وعندما أجبناه بالإنجليزية، اعتذر بقوله «ظننتكم تتحدثون العبرية».
وكأن التعليق باللغة العبرية ذكرني فجأة كم أننا في المنطقة نسينا مشكلتنا مع إسرائيل، ونسينا الفلسطينيين والأراضي المحتلة، وانشغلنا بمشاكل تعقيداتها داخلية بالدرجة الأولى، لأن بعض حكام بلداننا مثل لاعبي الحركات الخفية، شغلونا عنها بالصراع مع إسرائيل، وقد أثبتت السنوات الأخيرة، أن ذلك الصراع كان الحجة التي سقطت بفعل التقادم. فنصف قرن من العفونة الداخلية كان أكبر من بقائها في ثنايا الأوطان والنفوس بحجة إسرائيل. فلا استرجع النظام السوري، مثلاً، أرضاً اُحتلت، ولا أسس لمجتمع مدني متين ونظام اقتصادي يقود إلى الازدهار بعيداً عن الفساد. قيادة من هذا النوع كانت ستقي البلاد مما آلت إليه من خراب كبير لو انها سلكت مسلكا ديمقراطيا شجاعا، كان سيعفينا من جدل عقيم مع إخواننا العرب عن مثل «المرأة التي خرجت عن طوع رجال العائلة فاستحقت العقاب».