بعد صمت طويل عن سيد قطب بعد أن تعرض له بهجو حانق عام 1963 في كتابه (من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث)، تحدث محمد الغزالي عنه لأول مرة في ندوة عن الصحوة الإسلامية في العالم العربي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية بتونس والتي صدرت أبحاثها والتعقيبات على أبحاثها في كتاب عنوانه (الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي) عام 1987.
أتى حديثه عنه في تعقيبه على بحث محمد أحمد خلف الله (الصحوة الإسلامية في مصر).
قال في تعقيبه: «يقول الباحث عن سيد قطب: إنه لعب الدور المهم في حياة جماعة الإخوان المسلمين... ويمكننا أن نعرف قيمة هذه الكلمة عندما نعرف أن سيد قطب لم يلتق حسن البنا، ولم ينتسب إلى الإخوان طيلة حياته (!). بل لقد ظل بعيداً عن جماعة الإخوان بضع سنين بعد استشهاد حسن البنا، ولم ينضم إليهم إلا بعد قيام الثورة بعدة شهور على عهد حسن الهضيبي».
مع أن تعقيب الغزالي على بحث محمد أحمد خلف الله كان تعقيباً مكتوباً إلا أنه وقع في قول مضطرب بين نفي انتساب سيد قطب طيلة حياته لجماعة الإخوان المسلمين وبين إقرار بهذا الانتساب بعد مضي عدة شهور على قيام ثورة 23 يوليو (تموز) 1952.
وللدقة، فإن انتسابه لها بعد قيام الثورة تجاوزت مدته شهوراً، فلا يجوز -لغوياً- تحدیده «بعدة شهور». فهو قد انتسب إليها بعد قيام الثورة بما يقرب من العام، أو تحديداً بعد مضي أحد عشر شهراً على قيامها.
وتأكيداً إلى ما ذهب إليه، روى الغزالي هذه الواقعة:
«وأذكر هنا أن صالح عشماوي رئيس تحرير مجلة (الدعوة) أرسلني إلى سيد قطب ليكتب كلمة عن البنا في ذكرى استشهاده الأولى عام 1950 -وكانت بيني وبينه مودة- ولكن سيد قطب قال لي: أرجو قبول اعتذاري فمن الخير أن أكون بعيداً.. »..
قال شريف يونس في كتابه (سيد قطب والأصولية الإسلامية) مصححاً للغزالي: «وقد أخطأ في تاريخ الواقعة، فذكر أنها في الذكرى الأولى لوفاة البنا، ولم يكن سيد قطب وقتها موجوداً في مصر، كما أن (الدعوة) لم تصدر بعد».
وقد أشار في متن كتابه إلى أن تاريخها يعود إلى عام 1951.
الواقعة التي صححها شريف يونس له ينسب خطؤها إلى اختلاط الذاكرة عنده، ففي 12 فبراير (شباط) 1950، وهي الذكرى الأولى لمقتل البنا، لم يكن لدى الإخوان المسلمين منبر إعلامي لأنهم لا يزالون تحت سلطة قرار حل جماعتهم الصادر في ٨ ديسمبر (كانون الأول) 1948. وما بعد تاريخ 12 فبراير 1950 في ظل فوز كبير لحكومة الوفد في الانتخابات التي أفرجت عن سجناء من الإخوان المسلمين وسجناء من الشيوعيين، كان للإخوان المسلمين نشاط غير رسمي، تمكن فيه الإخواني صالح عشماوي من استئجار مجلة محدودة الانتشار اسمها مجلة (المباحث القضائية) من صاحب امتيازها حسني الحسيني، ليتولى هو إصدارها، وليجعلها ناطقة باسم الإخوان المسلمين، بعد أن حذف منها اسمها الأخير.
هذه المجلة، هي مجلة (المباحث) بعد أن صارت مجلة إخوانية. صدر أول عدد منها في 30 مايو (أيار) 1951. وصدر آخر عدد منها في 23 يناير (كانون الثاني) 1951، ليعيدها بعد صدور هذا العدد لصاحبها حسني الحسيني.
وقد أعادها إلى صاحبها لأنه تيسر له الحصول على ترخيص بإصدار مجلة يكون هو صاحب امتيازها. هذه المجلة هي مجلة (الدعوة) التي صدر أول عدد منها في 30 يناير 1951. وحصل بعده الإخواني الآخر سعيد رمضان على ترخيص مجلة أخرى لتكون أيضاً ناطقة باسم الإخوان المسلمين، وهي مجلة (المسلمون)، وكان أول عدد صدر منها بتاريخ 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1951.
وفي 30 أبريل (نيسان) 1951 صدر قرار من مجلس الدولة بنقض قرار حل جماعة الإخوان المسلمين وقرار مصادرة ممتلكاتها.
أقول: إن الواقعة التي صححها شريف يونس للغزالي قد ينسب خطؤها لاختلاط الذاكرة عنده لقرب عام 1950 من عام 1951، ولأنه كما كان يكتب في مجلة (الدعوة) كان يكتب في مجلة (المباحث) حين استأجرها الإخواني صالح عشماوي مؤقتاً لكن الواقعة صحيحة وقد حصلت في الذكرى الثانية -وليست الأولى- لمقتل حسن البنا التي كان يومها هو 12 فبراير 1951، حصلت حين كانت مجلة (الدعوة) ستصدر عدداً خاصاً بهذه الذكرى في عددها الثالث في ذلك الشهر، شهر فبراير. وكان الغزالي قد شارك في هذا العدد الخاص بمقال عن البنا عنوانه «غصن باسق في شجرة الخلود».
وإذا تجاوزنا الخطأ بتاريخ الواقعة، فبقيتها تخللها تدليس في روايته لها. فهو قد أوحى للقارئ بأن سيد قطب اعتذر عن كتابة كلمة في ذكرى مقتل البنا، لأنه كان خائفاً على نفسه من أن يحسب على الإخوان المسلمين.
إن الذي قرأ لسيد قطب كتاب (الإسلام والرأسمالية) الصادر عام 1951 يعلم أنه لا تنقصه الشجاعة السياسية.
ثم إنه في ذلك العام، عام 1951، ابتداء من العدد 27، صار يكتب في مجلة (الدعوة) مقالات سياسية... وللحديث بقية.