قُبيل الحرب العالمية الثانية، أدركت الإدارة الأميركية أن أدوات التحليل العلمي والجهاز المفاهيمي لتخصصاتها الأكاديمية قد أمست عاجزة عن فهم وتشريح الظواهر السياسية الكبرى التي ظهرت بين الحربين: كظهور الآيديولوجيات الشمولية الكبرى كالثورة الشيوعية بروسيا، والنازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا. وأصبحت عملية التفسير العلمي أكثر تعقيداً بعد هذه الحرب؛ إذ ازدادت عدد الدول المستقلة حديثاً، وتنامى دور حركات التحرر الوطني، وشاعت ظواهر العنف السياسي، وانقسم العالم إلى قطب رأسمالي وقطب شيوعي إبان الحرب الباردة. وأمام تحديات هذه الظواهر السياسية عجزت تخصصات القانون والتاريخ والأبحاث النفسية وبعض الحقول الإنسانية الأخرى في تفسير هذه الحوادث الناشئة والجديدة؛ نظراً لتعاطيها مع تعقيدات هذه الأحداث السياسية من منطلقات عقائدية أو مثالية، أو من خلال الانطلاق من مرجعية منظومة القيم الأخلاقية والمثل السامية التي تربط المصالح الأميركية بالنظام الدولي، الذي كان يتشكل حينها في نسق الثنائية القطبية.
هذا العُقم المعرفي لدولة مركزية كالولايات المتحدة التي كانت تتطلع حينها إلى قيادة العالم الجديد وترتيب أولويات مصالح أمنها القومي، في عالم يزداد تعقيداً بعد الحرب دفعها إلى استحداث مؤسستين: إنشاء المخابرات الأميركية (سي آي إيه)، وإنشاء كليات مستقلة لتخصصات العلوم السياسية. وبذل حينها خبراء العلوم السياسية جهوداً مضنية لتحديد الملامح الكبرى لموضوعات العلوم السياسية التي قد تخدم المصالح القومية لوطنهم عبر التصدي العلمي لعالم جديد تتسع فيه الخريطة الجيوساسية التي تتشابك فيه المصالح، وتتنوع في منظومته الدولية النظم السياسية والمؤسسات العالمية، وتتفشَّى بين دوله الناشئة الصراعات الدولية، وتتنامى فيه الاستقطابات الآيديولوجية الحادة.
ومن أجل دراسة كل هذه التحديات السياسية المتنوعة بشكل علمي ومنهجي، انسلخ أساتذة العلوم السياسية بأقسامهم الأكاديمية عن التخصصات القانونية والتاريخية التي عجزت بأدوات تحليلها الكلاسيكية ومناهجها الوصفية والمثالية عن فهم التحولات السياسية الجديدة. وبدعم وتشجيع من بعض الإدارات الأميركية المتعاقبة، تأسست كليات مستقلة للعلوم السياسية فكانت ملتقى أكاديمياً للخبراء المختصين الذين استحدثوا نظرياتها وأنساقها المعرفية، وأطرها التحليلية، وأدواتها العلمية، ومناهجها البحثية الخاصة بها. ولمواكبة المشكلات الدولية الجديدة المنبثقة من إرهاصات ما بعد الحرب العالمية الثانية، طوَّر علماء السياسة ثلاثة حقول ومسارات معرفية داخل تخصصات العلوم السياسية: العلاقات الدولية، والسياسات المقارنة، والفكر السياسي أو النظرية السياسية. وفي حين اهتم المختصون بالعلاقات الدولية بالتفاعلات السياسية المرتبطة بقضايا الحروب الدولية، والسلام، والدبلوماسية، والبنية القطبية للنظام الدولي، وفن تحويل الأعداء إلى أصدقاء أو منافسين، انشغل الباحثون في السياسات المقارنة بأحوال الانتخابات، وتشريح النظم السياسية، وقضايا شرعية الحكم، والتدابير الموضوعية المهمة للحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي، والمسائل المرتبطة بالحروب الأهلية، والثورات، والحركات الاجتماعية، والتحولات الديمقراطية، ومؤشرات فشل وانهيار الدول وكيفية بنائها، وظواهر الإرهاب والعنف السياسي. أما المختصون في النظرية والفكر السياسي فصبّوا معظم اهتمامهم في تحليل وتفسير الآيديولوجيات الشمولية، والتصدي للعقيدة الشيوعية، والنظريات الفوضوية والماركسية، والاستقراء التحليلي لفلسفة الدولة والعقل السياسي عبر الثقافات المتباينة، والتركيز على المفاهيم المرتبطة بالآليات التفكيكية للعقائد السياسية، والاهتمام بالمنظومات السياسية لأفكار عصر النهضة والتنوير والحداثة وما بعد الحداثة.
ورغم التمايز النسبي بين هذه الحقول الفرعية الثلاثة، فإن مفهوم الدولة - الأمة وما يلحقها من ظواهر سياسية كانت حاضرة دائماً، وهي مركز الاهتمام وبؤرة التركيز المنهجي عند المختصين في كل هذه الحقول المعرفية. فالبنية المنطقية في التحليل السياسي التي أجمع عليها أساتذة السياسة هي الفكرة الأرسطية منذ أكثر من ألفي عام، والتي تؤكد أن الإنسان بطبعه حيوان سياسي، ومن يجرؤ على العيش خارج الدولة، فهو إما «حيوان أو آلهة»، وهو نفس توجه الفكر السياسي الحديث الذي يرى فيه غرامشي أن «كل شيء داخل الدولة، فلا شيء خارج الدولة، ولا شيء ضد الدولة». ومن منطلق هذا التصور النظري، فإن الإنسان المعاصر يظل كائناً عدمياً ومجرداً من ذاتيته الإنسانية خارج مظلة التنظيم السياسي للدولة الحديثة. فهو يولد بشهادة ميلاد ويموت بوثيقة وفاة صادرة كلها من مؤسسات الدولة التي تتدخل في سلوكه وشأنيه العام والخاص منذ انبثاقه على هذه الحياة وحتى الخروج منها. ومن هنا، وبسبب مركزية الدولة في التحليل السياسي؛ أضحى علماء السياسة الأميركيون نجوماً بارزة ولامعة على صعيد الوعي السياسي الجمعي، وغدت نظرياتهم مناط الاستدلالات والاقتباسات العلمية في كل حقول المعرفة الإنسانية والقطاعات الأمنية، وأصبحوا مورداً بشرياً مهماً للوظائف القيادية العليا في الإدارة الأميركية، وملهمين كباراً في رسم الاستراتيجيات الكبرى، ووضع ترتيبات قواعد النظام الدولي، وصياغة قوانين اللعبة السياسية. ويندر أن تجد حقلاً معرفياً في العلوم الإنسانية أو الدراسات الأمنية لا تستلهم نظريات بعض علماء السياسة ككيسنجر وبريجنسكي وفوكوياما وروبرت دال أو جوزيف ناي، أو تتعاطى مع استراتيجياتهم لفهم تعقيدات الواقع السياسي، ويكون ذلك إما في إطار استعراض هؤلاء الباحثين للاستدلالات التحليلية لأطروحاتهم، أو ضمن سياقات منظورهم النقدي لهؤلاء المفكرين. ولأهمية العلوم السياسية كرافد معرفي وعملي للحكومة الأميركية، أطلقت بعض الجامعات الكبرى أسماء رؤساء أميركا على كليات العلوم السياسية ككلية جوزف كنيدي في جامعة هارفارد، وكلية ودرو ويلسون في جامعة برينستون، وكلية بوش الأب في جامعة تكساس، وجيرالد فورد في جامعة ميتشغان.
وعلى الجانب الآخر في هذا العالم، تُعدُ السعودية دولة مركزية في ميزان القوى بمنطقة الشرق الأوسط، وصاحبة الكلمة العليا في منظمة «أوبك»، والموازن الاستراتيجي في سوق الطاقة الدولية، ومن المحركات الرئيسية في الاقتصادي العالمي، وعضواً مهماً في دول العشرين. والأهم من ذلك كله، تشهد تركيبتها الداخلية تحولاً دراماتيكياً على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتواجه سياستها الخارجية تحديات سياسية وآيديولوجية ومخاطر أمنية غير مسبوقة على الصعيدين الإقليمي والدولي، لا تختلف كثيراً عن الحروب الدولية والمعارك الفكرية التي خاضتها أميركا إبان تحولات الباردة، والتي بسببها نالت تخصصات العلوم السياسية اهتماماً لافتاً ومنقطع النظير. ولكن، وللأسف، ورغم كل ما تشهده المملكة كدولة كبرى من تغيرات استراتيجية، لم يواكب قسم العلوم السياسية فيها هذه التحولات البنيوية المتسارعة؛ بسبب ضعف الهياكل المؤسسية الجامعية التي ما زالت تتعامل مع هذا التخصص بوصفه فرعاً معرفياً غير مستقل عن تخصصات العلوم الإنسانية الأخرى، وإلحاق أقسامه بكليات علمية أخرى. وانعكس هذا الإلحاق المؤسسي على ندرة تدفق الموارد المادية والمالية في أقسامها، وضخ الرأسمال البشري بين كوادرها، أو الاستعانة بنخبها المعرفية في مراكز الأبحاث والدراسات العلمية، ومؤسسات صنع القرار.
وكما كان الحال بالدولة الأميركية التي كانت تخوض حرباً شرسة ضد العقائد الشيوعية، وتعيد ترتيبات موازين القوى وتقسيم مناطق النفوذ في العالم الجديد، فدعمت تخصصات العلوم السياسية من أجل التصدي لهذه التعقيدات السياسية؛ فالمملكة في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ تخوض كذلك معركة غير مسبوقة على صعيد الثقافة السياسية بتصحيح مسار الوعي الجمعي المتغلغل في رأسماله الاجتماعي رواسب العقائد الصحوية، علاوة على معاركها الخارجية المفتوحة، ورغم ذلك كله ما زال دعم ورعاية هذا التخصص النوعي خارج معادلات هذين الصراعين الاستراتيجي والفكري. فالشرط الموضوعي للنهضة الاقتصادية التي تتطلع لها «رؤية 2030» هو الانفتاح الثقافي على العالم، وتقبّل الآخر بأفق فكري أكثر تسامحاً وتصالحاً مع قيم التنوير والحداثة، واستقراء الواقع السياسي والعلاقات الدولية بمناهج علمية حديثة. وهذا الأمر مشروط بتذويب سمنة الأفكار المثقلة بخطاب الكراهية والغلو والتطرف والذي يصعب محاربته دون فتح مساحات واسعة ودعم حقيقي جاد لخبراء العلوم السياسية لمقارعة رواد هذا الخطاب والتيار الآيديولوجي، وتوليد معانٍ ومفاهيم فكرية جديدة تستجيب لمتطلبات المرحلة المقبلة، وتتعامل مع القضايا الدولية بأنساق ونماذج معرفية أكثر إبداعاً وتطوراً.
وفي الختام، فإن المملكة لها مكانتها الخاصة على مستوى صناعة القرارات الدولية، علاوة على تغيرات تركيبتها الداخلية المتسارعة. ويرافق هذا التحول النهضوي تَطَّلع جامعة الملك سعود - بوصفها منارة التنوير الفكري بالمملكة - بأن تكون في طليعة أفضل عشر جامعات بالعالم؛ ولذلك فإن الدور ملقى على عاتقها بأن تسهم بدور فعال وحقيقي في إعادة هيكلة مؤسساتها العلمية، من خلال بذل مزيد من الاهتمام والعناية بقسم العلوم السياسية كبقية أفضل الجامعات الكبرى بالعالم، التي ينفرد فيها هذا القسم بكليات مستقلة، وإدارات وعمادات ناضجة، ورأسمال بشري ومالي كافٍ وفعال. ولا غرو بتسمية الكلية المستقلة المقترحة بمسمى «كلية الأمير محمد بن سلمان للدراسات الدولية»؛ نظراً لقيادته السياسية للدولة في أهم منعطفاتها التاريخية، وذلك على غرار كليات العلوم السياسية الأميركية التي تسمت بأسماء رؤساء كان لهم دور كبير في رسم التحولات الكبرى للدولة الأميركية، وأصبحت هذه الأسماء خالدة في وعي الأجيال المتلاحقة، ومخرجات هذه الكليات العلمية.